فصل: تفسير الآيات رقم (128- 132)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 120‏]‏

‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ‏(‏113‏)‏ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏114‏)‏ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏115‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏116‏)‏ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏117‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏118‏)‏ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏119‏)‏ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

الآناء‏:‏ الساعات‏.‏ وفي مفردها لغات أني كمعى، وأنى كفتى، وأنى كنحى، وأتى كظبى، وانو كجرو‏.‏ الصر‏:‏ البرد الشديد المحرق‏.‏ وقيل‏:‏ البارد بمعنى الصرصر كما قال‏:‏

لا تعدلن إناء بين تضر بهم *** نكباء ضرّ بأصحاب المحلات

وقالت ليلى الأخيلية‏:‏

ولم يغلب الخصم الألد ويملأ *** الجفان سديفاً يوم منكباء صرصر

وقال ابن كيسان‏:‏ هو صوت لهب النار، وهو اختيار الزجاج من الصرير‏.‏ وهو الصوت من قولهم‏:‏ صرَّ الشيء، ومنه الريح الصرصر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ والصرُّ صوت النار التي في الريح‏.‏

البطانة في الثوب بإزاء الظهارة، ويستعار لمن يختصه الإنسان كالشعار والدثار‏.‏ يقال‏:‏ بطن فلان من فلان بطوناً وبطانة إذا كان خاصاً به، داخلاً في أمره‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

أولئك خلصاني نعم وبطانتي *** وهم عيبتي من دون كل قريب

ألوت في الأمر‏:‏ قصرت فيه‏.‏ قال زهير‏:‏

سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم *** فلم يفعلوا ولم يليموا لم يألووا

أي لم يقصروا‏.‏ الخبال والخبل‏:‏ الفساد الذي يلحق الحيوان‏.‏ يقال‏:‏ في قوائم الفرس خبل وخبال أي فساد من جهة الاضطراب‏.‏ والخبل والجنون‏.‏ ويقال‏:‏ خبله الحب أي أفسده‏.‏

البغضاء‏:‏ مصدر كالسراء والبأساء يقال‏:‏ بغض الرجل فهو بغيض، وأبغضته أنا اشتدت كراهتي له‏.‏

الأفواه معروفة، والواحد منها في الأصل فوه‏.‏ ولم تنطق به العرب بل قالت‏:‏ فم‏.‏ وفي الفم لغات تسع ذكرت في بعض كتب النحو‏.‏

العض‏:‏ وضع الأسنان على الشيء بقوة، والفعل منه على فِعل بكسر العين، وهو بالضاد‏.‏ فأماعظ الزمان وعظ الحرب فهو بالظاء أخت الطاء قال‏:‏

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع *** من المال إلا مسحتا أو مجلف

والعُض بضم العين علف أهل الأمصار مثل‏:‏ الكسب والنوى المرضوض‏:‏ يقال منه‏:‏ أعض القوم إذا أكل إبلهم العض‏.‏ وبعير عضاضيّ أي سمين، كأنه منسوب إليه‏.‏ والعِض بالكسر الداهية من الرجال‏.‏

الأنامل جمع أنملة، ويقال‏:‏ بفتح الميم وضمها، وهي أطراف الأصابع‏.‏ قال ابن عيسى‏:‏ أصلها النمل المعروف، وهي مشبهة به في الدقة والتصرف بالحركة‏.‏ ومنه رجل نمل‏:‏ أي نمام‏.‏

الغيض‏:‏ مصدر غاضة، وغيض اسم علم‏.‏

الفرح‏:‏ معروف يقال منه‏:‏ فرح بكسر العين‏.‏

الكيد‏:‏ المكر كاده يكيده مكر به‏.‏ وهو الاحتيال بالباطل‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وأصله المشقة من قولهم‏:‏ فلان يكيد بنفسه، أي يعالج مشقات النزع وسكرات الموت‏.‏

‏{‏ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة‏}‏ سببت النزول إسلام عبد الله بن سلام وغيره من اليهود، وقول الكفار من أحبارهم‏:‏ ما آمن بمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا خياراً ما تركوا دين آبائهم قاله‏:‏ ابن عباس، وقتادة، وابن جريج‏.‏ والواو في ليسوا هي لأهل الكتاب السابق ذكرهم في قوله‏:‏ ‏{‏ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون‏}‏

والأصح‏:‏ أن الواو ضمير عائد على أهل الكتاب، وسواء خبر ليس‏.‏ والمعنى‏:‏ ليس أهل الكتاب مستوين، بل منهم من آمن بكتابه وبالقرآن ممن أدرك شريعة الإسلام، أو كان على استقامة فمات قبل أن يدركها‏.‏

ومن أهل الكتاب أمة قائمة‏:‏ مبتدأ وخبر‏.‏ وقال الفراء‏:‏ أمة مرتفعة بسواء، أي ليس أهل الكتاب مستوياً من أهل الكتاب أمة قائمة موصوفة بما ذكر وأمة كافرة، فحذفت هذه الجملة المعادلة، ودل عليها القسم الأول كقوله‏:‏

عصيت إليها القلب إني لأمره *** سميع فما أدري أرشد طلابها

التقدير‏:‏ أم غي فحذف لدلالة أرشد وقال‏:‏

أراك فما أدري أهم ضممته *** وذو الهم قدماً خاشع متضائل

التقدير‏:‏ أم غيره‏.‏ قال الفراء‏:‏ لأن المساواة تقتضي شيئين‏:‏ سواء العاكف فيه والبادِ سواء محياهم ومماتهم‏.‏ ويضعف قول الفراء من حيث الحذف‏.‏ ومن حذف وضع الظاهر موضع المضمر، إذ التقدير‏:‏ ليس أهل الكتاب مستوياً منهم أمة قائمة كذا، وأمة كافرة‏.‏ وذهب أبو عبيدة‏:‏ إلى أن الواو في ليسوا علامة جمع لا ضمير مثلها، في قول الشاعر‏:‏

يلومونني في شراء النخي *** ل قومي وكلهم ألوم

واسم ليس‏:‏ أمّة قائمة، أي ليس سواء من أهل الكتاب أمّةً قائمة موصوفة بما ذكروا أمة كافرة‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وما قاله أبو عبيدة خطأ مردود انتهى‏.‏ ولم يبين جهة الخطأ، وكأنه توهم أن اسم ليس هو أمة قائمة فقط، وأنه لا محذوف‏.‏ ثمّ إذ ليس الغرضُ تفاوت الأمة القائمة التالية، فإذا قدر ثم محذوف لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردوداً‏.‏ قيل‏:‏ وما قاله أبو عبيدة هو على لغة أكلوني البراغيث، وهي لغة رديئة والعرب على خلافها، فلا يحمل عليها مع ما فيه من مخالفة الظاهر انتهى‏.‏ وقد نازع السهيلي النحويين في قولهم‏:‏ إنها لغة ضعيفة، وكثيراً ما جاءت في الحديث‏.‏ والإعراب الأول هو الظاهر‏.‏ وهو‏:‏ أن يكون من أهل الكتاب أمةٌ قائمة مستأنف بيان لانتفاء التسوية كما جاء ‏{‏يأمرون بالمعروف‏}‏ بياناً لقوله‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة‏}‏ والمراد بأهل الكتاب واليهود والنصارى‏.‏

وأمة قائمة أي مستقيمة من أقمت العود فقام، أي استقام‏.‏ قال مجاهد والحسن وابن جريج‏:‏ عادلة‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة والربيع‏:‏ قائمة على كتاب الله وحدوده مهتدية‏.‏ وقال السدي‏:‏ قانتة مطيعة، وكلها راجع للقول الأوّل‏.‏

وقال ابن مسعود والسدي‏:‏ الضمير في ليسوا عائد على اليهود‏.‏ وأمة محمد صلى الله عليه وسلم إذ تقدم ذكر اليهود وذكرُ هذه الأمة في قوله‏:‏ «كنتم خير أمة»‏.‏ والكتاب على هذا القول جنسُ كتب الله، وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ من أهل الكتاب أمة قائمة أهل القرآن‏.‏ والظاهر عود الضمير على أهل الكتاب المذكورين في قوله‏:‏ ‏{‏ولو آمن أهل الكتاب‏}‏ لتوالي الضمائر عائدة عليهم فكذلك ضمير ليسوا‏.‏

وقال عطاء‏:‏ من أهل الكتاب أمة قائمة الآية يريد أربعين رجلاً من أهل نجران من العرب، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم، كانوا على دين عيسى وصدقوا محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكان ناس من الأنصار موحدين ويغتسلون من الجنابة، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جاءهم منه أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ومحمد بن مسلمة وقيس بن صرمة بن أنس‏.‏ ‏{‏يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون‏}‏ وصف الأمة القائمة بأنها تالية آيات الله، وعبَّر بالتلاوة في ساعات الليل عن التهجد بالقرآن‏.‏ وقوله‏:‏ وهم يسجدون جملة في موضع الصفة أيضاً معطوفة على يتلون، وصفهم بالتلاوة للقرآن وبالسجود‏.‏ فتلاوة القرآن في القيام، وأما السجود فلم تشرع فيه التلاوة‏.‏ وجاءت الصفة الثانية اسمية لتدل على التوكيد بتكرر الضمير وهو هم، والواو في يسجدون إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد‏.‏ وأخبر عن المبتدأ بالمضارع، وجاءت الصفة الأولى بالمضارع أيضاً لتدل على التجدد، وعطفت الثانية على الأولى بالواو لتشعر بأن تلك التلاوة كانت في صلاة، فلم تكن التلاوة وحدها ولا السجود وحده‏.‏

وظاهر قوله‏:‏ آناء الليل أنها جميع ساعات الليل‏.‏ فيبعد صدور ذلك أعني التلاوة والسجود من كل شخص شخص، وإنما يكون ذلك من جماعة إذْ بعضُ الناس يقوم أول الليل، وبعضهم آخره، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات استيعاب ساعات الليل بالقيام في تلاوة القرآن والسجود، وعلى هذا كان صدر هذه الأمة‏.‏ وعرف الناس القيام في أول الثلث الأخير من الليل، أو قبله بقليل، والقائم طول الليل قليل، وقد كان في الصالحين مَنْ يلتزمه، وقد ذكر الله القصد في ذلك في أول المزمل‏.‏ وآناء الليل‏:‏ ساعاته قاله الربيع وقتادة وغيرهما‏.‏ وقال السدي‏:‏ جوفه وهو من إطلاق الكل على الجزء، إذ الجوف فرد من الجمع‏.‏ وعن منصور‏:‏ أنها نزلت في المصلين بين العشاءين، وهو مخالف لظاهر قوله‏:‏ ‏{‏يتلون آيات الله آناء الليل‏}‏‏.‏ وعن ابن مسعود‏:‏ أنها صلاة العتمة‏.‏ وذكر أنّ سبب نزولها هو احتباكُ النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة وكان عند بعض نسائه فلم يأت حتى مضى الليل، فجاءوا منّ المصلي ومنا المضطجع فقال‏:‏ «أبشروا فإنه ليس أحد من أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة» ولهذا السبب ذكر ابن مسعود أن قوله‏:‏ ليسوا سواء عائد على اليهود وهذه الأمة، وهو خلاف الظاهر‏.‏ والظاهر من قوله‏:‏ وهم يسجدون أنه أريد به السجود في الصلاة‏.‏ وقيل‏:‏ عبر بالسجود عن الصلاة تسمية للشيء بجزء شريف منه، كما يعبر عنها بالركوع قاله‏:‏ مقاتل، والفراء، والزجاج‏.‏ لأن القراءة لا تكون في الركوع ولا في السجود، فعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال، أي يتلون آيات الله متلبسين بالصلاة‏.‏

وقيل‏:‏ سجود التلاوة‏.‏ وقيل‏:‏ أريد بالسجود الخشوع والخضوع‏.‏ وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة معطوفة من الكلام الأوّل، أخبر عنهم أيضاً أنهم أهل سجود، ويحسِّنُهُ أنْ كانت التلاوة في غير صلاة‏.‏ ويكون أيضاً على هذا التأويل في غير صلاة نعتاً عدد بواو العطف، كما تقول‏:‏ جاءني زيد الكريم والعاقل‏.‏ وأجاز بعضهم في قوله‏:‏ وهم يسجدون أن يكون حالاً من الضمير في قائمة، وحالاً من أمة، لأنها قد وصفت بقائمة‏.‏ فتلخص في هذه الجملة قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها لا موضع لها من الإعراب، بأن تكون مستأنفة‏.‏ والقول الآخر‏:‏ أن يكون لها موضع من الإعراب ويكون رفعاً بأن يكون في موضع الصفة، أو بأن يكون نصباً بأن يكون في موضع الحال، إما من الضمير في يتلون، أو من الضمير في قائمة، أو من أمة‏.‏ ودلت هذه الآية على الترغيب في قيام الليل، وقد جاء في كتاب الله‏:‏ ‏{‏ومن الليل فتهجد به نافلة لك‏}‏ ‏{‏أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً‏}‏ ‏{‏يا أيها المزمّل‏.‏ قم الليل‏}‏ وفي الحديث‏:‏ «يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فتركه وقبه، نعم الرجل عبد الله إلا أنه لا يقوم من الليل» وغير ذلك كثير‏.‏ وعن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب قال‏:‏ إنا نجد كلاماً من كلام الرب عزّ وجل‏:‏ أيحسب راعي إبل وغنم إذا جنه الليل انجدل كمن هو قائم وساجد الليل‏.‏

‏{‏يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏ تقدم تفسير مثل هذه الجمل‏.‏

‏{‏ويسارعون في الخيرات‏}‏ المسارعةُ في الخير ناشئة عن فرط الرغبة فيه، لأنّ مَنْ رغب في أمر بادر إليه وإلى القيام به، وآثر الفور على التراخي‏.‏ وجاء في الحديث‏:‏ «اغتنم خمساً قبل خمس‏:‏ شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك»

وصفهم تعالى بأنهم إذا دعوا إلى خير من نصر مظلوم، وإغاثة مكروب، وعبادة الله، بادروا إلى فعله‏.‏ والظاهر في يؤمنون أن يكون صفة أي تالية مؤمنة‏.‏ وجوزوا أنْ تكون الجملة مستأنفة، أو في موضع الحال من الضمير في يسجدون، وأن تكون بدلاً من السجود‏.‏ قيل‏:‏ لأن السجود بمعنى الإيمان‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين، ومن الإيمان بالله، لأن إيمانهم به كلا إيمان، لإشراكهم به عزيراً وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض، ومن الإيمان باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم كانوا مداهنين، ومن المسارعة في الخيرات لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها انتهى كلامه‏.‏

وهو حسن‏.‏ ولمّا ذكر تعالى هذه الأمة وصفها بصفات ست‏:‏ إحداها‏:‏ أنها قائمة، أي مستقيمة على النهج القويم‏.‏ ولمّا كانت الاستقامة وصفاً ثابتاً لها لا يتغير جاء باسم الفاعل‏.‏ الثانية‏:‏ الصلاة بالليل المعبر عنها بالتلاوة والسجود، وهي العبادة التي يظهر بها الخلو لمناجاة الله بالليل‏.‏ الثالثة‏:‏ الإيمان بالله واليوم الآخر، وهو الحامل على عبادة الله وذكر اليوم الآخر لأنّ فيه ظهور آثار عبادة الله من الجزاء الجزيل‏.‏ وتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء، إذ هم الذين أخبروا بكينونة هذا الجائز في العقل ووقوعه، فصار الإيمان به واجباً‏.‏

الرابعة‏:‏ الأمر بالمعروف‏.‏

الخامسة‏:‏ النهي عن المنكر، لما كملوا في أنفسهم سعوا في تكميل غيرهم بهذين الوصفين‏.‏

السادسة‏:‏ المسارعة في الخيرات‏.‏ وهي صفة تشمل أفعالهم المختصة بهم، والأفعال المتعدية منهم إلى غيرهم‏.‏ وهذه الصفات الثلاثة ناشئة أيضاً عن الإيمان، فانظر إلى حسن سياق هذه الصفات حيث توسط الإيمان، وتقدمت عليه الصفة المختصة بالإنسان في ذاته وهي الصلاة بالليل، وتأخرت عنه الصفتان المتعدّيتان والصفة المشتركة، وكلها نتائج عن الإيمان‏.‏

‏{‏وأولئك من الصالحين‏}‏ هذه إشارة إلى من جمع هذه الصفات الست، أي وأولئك الموصوفون بتلك الأوصاف من الذين صلحت أحوالهم عند الله‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يريد بالصالحين المسلمين انتهى‏.‏ ويشبه قوله قول ابن عباس من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفيما قاله الزمخشري بعد بل‏:‏ الظاهر أنَّ في الوصف بالصلاح زيادة على الوصف بالإسلام، ولذلك سأل هذه الرتبة بعض الأنبياء فقال تعالى حكاية عن سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم‏:‏ ‏{‏وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين‏}‏ وقال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاً جعلنا صالحين‏}‏ وقال تعالى بعد ذكر إسماعيل‏:‏ ‏{‏وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين‏.‏ وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏والشهداء والصالحين‏}‏ ومن للتبعيض‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحسن أن تكون لبيان الجنس انتهى‏.‏ ولم يتقدم شيء فيه إبهام فيبين جنسه‏.‏

‏{‏وما يفعلوا من خير فلن يكفروه‏}‏ قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو بكر بالتاء فيهما على الخطاب، واختلفوا في المخاطب‏.‏ فقال أبو حاتم‏:‏ هو مردود إلى قوله‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة‏}‏ فيكون من تلوين الخطاب ومعدوله‏.‏ وقال مكي‏:‏ التاء فيها عموم لجميع الأمة‏.‏ والذي يظهر أنها التفات إلى قوله‏:‏ أمة قائمة، لما وصفهم بأوصاف جليلة اقبل عليهم تأنيساً لهم واستعطافاً عليهم، فخاطبهم بأنّ ما تفعلون من الخير فلا تمنعون ثوابه‏.‏ ولذلك اقتصر على قوله‏:‏ من خير، لأنه موضع عطف عليهم وترحم، ولم يتعرض لذكر الشرّ‏.‏ ومعلوم أن كل ما يفعل من خير وشر يترتب عليه موعوده‏.‏ ويؤيد هذا الالتفات وأنه راجع إلى أمة قائمة قراءة الياء، وهي قراءة‏:‏ ابن عباس، وحمزة، والكسائي، وحفص، وعبد الوارث عن أبي عمرو، واختيار أبي عبيد، وباقي رواة أبي عمرو، خير بين التاء والياء، ومعلوم في هذه القراءة، ومعلوم في هذه القراءة، أن الضمير عائد على أمة قائمة، كما عاد في قوله تعالى‏:‏ يتلون وما بعده‏.‏

وكفر‏:‏ يتعدّى إلى واحد، يقال‏:‏ كفر النعمة، وهنا ضمن معنى حرم، أي‏:‏ فلن تحرموا ثوابه، ولما جاء وصفه تعالى بأنه شكور في معنى توفية الثواب، نفى عنه تعالى نقيض الشكر وهو كفر الثواب، أي حرمانه‏.‏

‏{‏والله عليم بالمتقين‏}‏ لما كانت الآية واردة فيمن اتصف بالأوصاف الجميلة، وأخبر تعالى أنه يثيب على فعل الخير ناسب ختم الآية بذكر علمه بالمتقين، وإن كان عالماً بالمتقين وبضدهم‏.‏ ومعنى عليم بهم‏:‏ أنه مجازيهم على تقواهم، وفي ذلك وعد للمتقين، ووعيد للمفرطين‏.‏

‏{‏إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً‏}‏ تقدم تفسير هذه الجملة في أوائل هذه السورة‏.‏

‏{‏وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ تقدم تفسير نظير هذه الجملة في أوائل البقرة، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة‏.‏ وأنه لما ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ذكر شيئاً من أحوال الكافرين ليتضح الفرق بين القبيلين‏.‏

‏{‏مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته‏}‏ لمّا ذكر تعالى أنَّ ما فعله المؤمنون من الخير فإنهم لا يحرمون ثوابه، بل يجنون في الآخرة ثمرة ما غرسوه في الدنيا، أخذ في بيان نفقة الكافرين، فضرب لها مثلاً اقتضى بطلانها وذهابها مجاناً بغير عوض‏.‏ قال مجاهد‏:‏ نزلت في نفقات الكفار وصدقاتهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ في نفقات سفلة اليهود على علمائهم‏.‏ وقيل‏:‏ في نفقة المشركين يوم بدر‏.‏ وقيل‏:‏ في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ شبّه ما كانوا ينفقونه من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله بالزرع الذي حسَّه البرد فصار حطاماً‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما يتقربون به إلى الله مع كفرهم‏.‏ وقيل‏:‏ ما أنفقوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله انتهى‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ معناه المثال القائم في النفس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثاً، ومن حبطه يوم القيامة وكونه هباء منثوراً، وذهابه كالمثال القائم في النفس‏.‏ مَنْ زرع قوم نبت واخصرَّ وقوي الأمل فيه فهبت عليه ريح صرّ محرق فأهلكته انتهى‏.‏ والظاهر أن ما في قوله‏:‏ مثل ما ينفقون موصولة، والعائد محذوف، أيْ ينفقونه‏.‏ والظاهر تشبيه ما ينفقونه بالريح، والمعنى‏:‏ تشبيهه بالحرث‏.‏ فقيل‏:‏ هو من التشبيه المركب لم يقابل فيه الإفراد بالإفراد، وقد مر نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً‏}‏ ولذلك قال ثعلب‏:‏ بدأ بالريح، والمعنى على الحرث، وهو اختيار الزمخشري‏.‏

وقيل‏:‏ وقع التشبيه بين شيئين وشيئين، وذكر أحد المشبهين وترك ذكر الآخر، ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي يوازن المذكور الأول وترك ذكر الآخر، ودل المذكوران على المتروكين‏.‏ وهذا اختيار ابن عطية‏.‏ قال‏:‏ وهذه غاية البلاغة والإعجاز، ومثل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق‏}‏ انتهى‏.‏ ويجوز أن يكون على حذف مضاف من الأول تقديره‏:‏ مثل مهلك ما ينفقون‏.‏ أو من الثاني تقديره‏:‏ كمثل مهلك ريح‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أن تكون ما مصدرية، أي مثل إنفاقهم، فيكون قد شبه المعقول بالمحسوس، إذ شبه الإنفاق بالريح‏.‏ وظاهر قوله‏:‏ ينفقون أنه من نفقة المال‏.‏ وقال السدي‏:‏ معناه ينفقون من أقوالهم التي يبطنون ضدها‏.‏ ويضعف هذا أنّها في الكفار الذين يعلنون لا في المنافقين الذين يبطنون‏.‏ وقيل‏:‏ متعلق الإنفاق هو أعمالهم من الكفر ونحوه، هي كالريح التي فيها صر أبطلت أعمالهم كل ما لهم من صلة رحم وتحنثٍ بعتق، كما يبطل الريح الزرع‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول حسن، لولا بعد الاستعارة في الإنفاق انتهى‏.‏ وقال الراغب‏:‏ ومنهم من قال‏:‏ ما ينفقون عبارة عن أعمالهم كلها، لكنه خص الإنفاق لكونه أظهروا أكثر انتهى‏.‏

وقرأ ابن هرمز والأعرج‏:‏ تنفقون بالتاء على معنى قل لهم، وأفرد ريحاً لأنّها مختصة بالعذاب، كما أفردت في قوله‏:‏ ‏{‏بل هو ما استعجلتم به ريح‏}‏ ولئن أرسلنا ريحاً إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً كالريح العقيم‏.‏ كما أن الجمع مختص بالرحمة أن ‏{‏يرسل الرياح مبشرات‏}‏ ‏{‏وأرسلنا الرياح لواقح‏}‏ ‏{‏يرسل الرياح بشراً‏}‏ ولذلك روي‏:‏ «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» وارتفاعُ صرّ على أنه فاعل بالمجرور قبله، إذْ قد اعتمد بكونه وقع صفة للريح‏.‏ فإنْ كان الصر البرد وهو قول‏:‏ ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، أو صوت لهيب النار أو صوت الريح الشديدة‏.‏ فظاهر كون ذلك في الريح‏.‏ وإنْ كان الصرُّ صفةً للريح كالصرصر، فالمعنى فيها قرةُ صرٍّ كما تقول‏:‏ برد بارد، وحذف الموصوف، وقامت الصفة مقامه‏.‏ أو تكون الظرفية مجازاً جعل الموصوف ظرفاً للصفة‏.‏ كما قال‏:‏ وفي الرحمن كاف للضعفاء‏.‏ وقولهم‏:‏ إن ضيعني فلان ففي الله كاف‏.‏ المعنى الرحمن كاف، والله كاف‏.‏ وهذا فيه بعد‏.‏

وقوله‏:‏ أصابت حرث قوم في موضع الصفة لريح‏.‏ بدأ أولاً بالوصف بالمجرور، ثم بالوصف بالجملة‏.‏ وقوله‏:‏ ظلموا أنفسهم جملة في موضع الصفة لقوم‏.‏ وظاهره أنهم ظلموا أنفسهم بمعاصيهم، فكان الإهلاك أشد إذ كان عقوبة لهم‏.‏

وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنّ مصائب الدنيا إنما هي بمعاصي العبد‏.‏ ويستنبط ذلك من غير ما آية في القرآن، فيستقيم على ذلك أن كل حرث تحرقه الريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه‏.‏ وقيل‏:‏ ظلموا أنفسهم معناه زرعوا في غير أوان الزراعة، أي وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل‏.‏

وخص هؤلاء بالذكر لأن الحرث فيما جرى هذا المجرى أوعب وأشد تمكناً، ونحا إلى هذا القول المهدوي‏.‏

‏{‏وما ظلمهم الله‏}‏ جوز الزمخشري وغيره أنْ يعودَ الضمير على المنفقين، أي‏:‏ ما ظلمهم بأنْ لم تُقبل نفقاتهم‏.‏ وأنْ يعودَ على أصحاب الحرث أي‏:‏ ما ظلمهم بإهلاك حرثهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الضمير في ظلمهم للكفار الذين تقدّم ضميرهم في ينفقون، وليس هو للقوم ذوي الحرث، لأنهم لم يذكروا ليردَّ عليهم، ولا لتبين ظلمهم‏.‏ وأيضاً قوله‏:‏ ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏‏.‏

يدل على فعل الحال في حاضرين انتهى‏.‏ وهو ترجيح حسن‏.‏ وقرئ شاذاً‏:‏ ولكنَّ بالتشديد، واسمها أنفسهم، والخبر يظلمون‏.‏ والمعنى‏:‏ يظلمونها هم‏.‏ وحسنٌ حذفُ هذا الضمير، وإنْ كان الحذف في مثله قليلاً كون ذلك فاصلة رأس آية، فلو صرَّح به لزال هذا المعنى‏.‏ ولا يجوز أنْ يعتقدَ أنَّ اسم لكن ضمير الشأن‏.‏ وحذف وأنفسهم مفعول بيظلمون، لأن حذف هذا الضمير يختص بالشعر‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً‏}‏ نزلت في رجال من المؤمنين يواصلون رجالاً من يهود للجوار والحلف والرضاع قاله‏:‏ ابن عباس‏.‏ وقال أيضاً هو وقتادة والسدي والربيع‏:‏ نزلت في المنافقين‏.‏ نهى اللهُ المؤمنين عنهم شبه الصديق الصدق بما يباشرُ بطن الإنسان من ثوبه‏.‏ يقال‏:‏ له بطانة ووليجة‏.‏ وقوله‏:‏ من دونكم في موضع الصفة لبطانة، وقدّره الزمخشري‏:‏ من دون أبناء جنسكم، وهم المسلمون‏.‏ وقيل‏:‏ يتعلق من بقوله‏:‏ لا تتخذوا‏.‏ وقيل‏:‏ مِنْ زائدة، أي بطانة دونكم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم نهوا أن يتخذوا أصفياء من غير المؤمنين‏.‏ ودل هذا النهي على المنع من استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستبانه إليهم‏.‏ وقد عتب عمر أبا موسى على استكتابه ذمياً، وتلا عليه هذه الآية‏.‏ وقد قيل لعمر في كاتب مجيد من نصارى الحيرة‏:‏ ألا يكتب عنك‏؟‏ فقال‏:‏ إذن أتخذ بطانة‏.‏

والجملة من قوله‏:‏ ‏{‏لا يألونكم خبالاً‏}‏ لا موضع لها من الإعراب، إذ جاءت بياناً لحال البطانة الكافرة، هي والجمل التي بعدها لتنفير المؤمنين عن اتخاذهم بطانة‏.‏ ومن ذهب إلى أنها صفة للبطانة أو حال مما تعلقت به من، فبعيد عن فهم الكلام الفصيح‏.‏ لأنهم نهوا عن اتخاذ بطانة كافرة، ثم نبه على أشياء مما هم عليه من ابتغاء الغوائل للمؤمنين، وودادة مشقتهم، وظهور بغضهم‏.‏ والتقييد بالوصف أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ عند انتفائهما‏.‏ وألا متعد إلى واحد بحرف الجر، يقال‏:‏ ما ألوت في الأمر أي ما قصرت فيه‏.‏ وقيل‏:‏ انتصب خبالاً على التمييز المنقول من المفعول، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفجرنا الأرض عيوناً‏}‏ التقدير‏:‏ لا يألونكم خبالكم، أي في خبالكم‏.‏ فكان أصل هذا المفعول حرف الجر‏.‏ وقيل‏:‏ انتصابه على إسقاط حرف، التقدير‏:‏ لا يألونكم في تخبيلكم‏.‏

وقيل‏:‏ انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ معناه لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم‏.‏ فعلى هذا يكون قد تعدى للضمير على إسقاط اللام، وللخبال على إسقاط في‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يقال‏:‏ أَلا في الأمر يألو إذا قصر فيه، ثم استعمل معدّى إلى مفعولين في قولهم‏:‏ لا آلوك نصحاً، ولا آلوك جهداً، على التضمين‏.‏ والمعنى‏:‏ لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه انتهى‏.‏

‏{‏ودوا ما عنتم‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ ودّوا إضلالكم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ مشقتكم‏.‏ وقال الراغب‏:‏ المعاندة والمعانتة يتقاربان، لكن المعاندة هي الممانعة، والمعانتة أن تتحرّى مع الممانعة المشقة انتهى‏.‏ ويقال‏:‏ عِنت بكسر النون، وأصله انهياض العظم بعد جبره‏.‏ وما في قوله‏:‏ ما عنتم مصدرية، وهذه الجملة مستأنفة كما قلنا في التي قبلها‏.‏ وجوّزوا أن يكون نعتاً لبطانة، وحالاً من الضمير في يألونكم، وقد معه مرادة‏.‏

‏{‏قد بدت البغضاء من أفواههم‏}‏ وقرأ عبد الله‏:‏ قد بدا، لأنّ الفاعل مؤنث مجازاً أو على معنى البغض، أي لا يكتفون ببغضكم بقلوبهم حتى يصرحوا بذلك بأفواههم‏.‏ وذكر الأفواه دون الألسنة إشعاراً بأن ما تلفظوا به يملأ أفواههم، كما يقال‏:‏ كلمة تملأ الفم إذا تشدّق بها‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أنْ ينفلتَ من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين انتهى‏.‏

ولمّا ذكر تعالى ما انطووا عليه من ودادهم عنت المؤمنين، وهو إخبار عن فعل قلبي، ذكر ما أنتجه ذلك الفعل القلبي من الفعل البدني، وهو‏:‏ ظهور البغض منهم للمؤمنين في أقوالهم، فجمعوا بين كراهة القلوب وبذاذة الألسن‏.‏ ثم ذكر أنَّ ما أبطنوه من الشر والإيذاء للمؤمنين والبغض لهم أعظم مما ظهر منهم فقال‏:‏

‏{‏وما تخفي صدورهم أكبر‏}‏ أي أكثر مما ظهر منها‏.‏ والظاهر أنَّ بدوَّ البغضاء منهم هو للمؤمنين، أي اظهروا للمؤمنين البغض‏.‏ وقال قتادة‏:‏ قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً على ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ بدت بإقرارهم بعد الجحود، وهذه صفة المجاهر‏.‏ وأسند الإخفاء إلى الصدور مجازاً، إذ هي محال القلوب التي تخفي كما قال‏:‏ ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏}‏

‏{‏قد بينا لكم الآيات‏}‏ أي الدالة على وجوب الإخلاص في الدين، وموالاة المؤمنين، ومعاداة الكفار‏.‏

‏{‏إن كنتم تعقلون‏}‏ أي ما بين لكم فعملتم به، أو إنْ كنتم عقلاء وقد علم تعالى أنهم عقلاء، لكن علقه على هذا الشرط على سبيل الهزّ للنفوس كقولك‏:‏ إن كنت رجلاً فافعل كذا‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ معناه إن كنتم تعقلون عن الله أمره ونهيه‏.‏ وقيل‏:‏ إنْ كنتم تعقلون فلا تصافوهم، بل عاملوهم معاملة الأعداء‏.‏ وقيل‏:‏ معنى إن معنى إذ أي إذ كنتم عقلاء‏.‏

‏{‏ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله‏}‏ تقدّم لنا الكلام على نظيرها، أنتم أولاء في قوله‏:‏

‏{‏ها أنتم هؤلاء حاججتم‏}‏ قراءة وإعراباً‏.‏ وتلخيصه هنا أن يكونَ أولاء خبراً عن أنتم، وتحبونهم مستأنف أو حال أو صلة، على أن يكون أولاء موصولاً أو خبراً لأنتم، وأولاء مناداً، أو يكون أولاء مبتدأ ثانياً، وتحبونهم خبر عنه، والجملة خبر عن الأوّل‏.‏ أو يكون أولاء في موضع نصب نحو‏:‏ أنا زيداً ضربته، فيكون من الاشتغال‏.‏ واسم الإشارة في هذين الوجهين واقع على غير ما وقع عليه أنتم، لأن أنتم خطاب للمؤمنين، وأولاء إشارة إلى الكافرين‏.‏ وفي الأوجه السابقة مدلوله ومدلول أنتم واحد‏.‏ وهو‏:‏ المؤمنون‏.‏ وعلى تقدير الاستئناف في تحبونهم، لا ينعقد مما قبله مبتدأ وخبر إلا بإضمار وصفٍ تقديره‏:‏ أنتم أولاء الخاطئون في موالاة غير المؤمنين إذ تحبونهم ولا يحبونكم‏.‏ بيان لخطئهم في موالاتهم حيثُ يبذلون المحبة لمن يبغضهم، وضمير المفعول في تحبونهم قالوا لمنافقي اليهود‏.‏ وفي الزمخشري‏:‏ لمنافقي أهل الكتاب‏.‏ والذي يظهر أنّه عائد على بطانة من دون المؤمنين، فهو كل منافق حتى منافق المشركين‏.‏

والمحبة هنا‏:‏ الميل بالطبع لموضع القرابة والرضاع والحلف قاله ابن عباس‏.‏ أو لأجل إظهار الإيمان والإحسان إلى المؤمنين قاله‏:‏ أبو العالية‏:‏ أو الرحمة لهم لما يقع منهم من المعاصي قاله‏:‏ قتادة‏.‏ أو إرادة الإسلام لهم قاله‏:‏ المفضل والزجاج‏.‏ وهذا ليس بجيد، لأنه لا يقع توبيخ على معنى إرادة إسلام الكافر، أو المصافاة، لأنها من ثمرة المحبة‏.‏

‏{‏وتؤمنون بالكتاب كله‏}‏، الكتاب‏:‏ اسم جنس، أي بالكتب المنزلة قاله‏:‏ ابن عباس‏.‏ والتوراة والإنجيل أو التوراة أقوال ثلاثة، وثم جملة محذوفة تقديرها‏:‏ ولا تؤمنون به كله بل يقولون‏:‏ نؤمن ببعض ونكفر ببعض‏.‏ يدلُّ عليها إثبات المقابل في تحبونهم ولا يحبونكم‏.‏ والواو في وتؤمنون للعطف على تحبونهم، فلها من الإعراب ما لها‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والواو في وتؤمنون للحال، وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم‏.‏ والحال‏:‏ إنكم تؤمنون بكتابهم كله، وهم مع ذلك يبغضونكم، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم‏؟‏ وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصل منكم في حقكم ونحوه‏.‏ فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون انتهى كلامه وهو حسن‏.‏ إلا أنه فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه، وهو‏:‏ أنه جعل الواو في وتؤمنون للحال، وأنها منتصبة من لا يحبونكم‏.‏ والمضارعُ المثبت إذا وقع حالاً لا تدخل عليه واوٍ الحال تقول‏:‏ جاء زيد يضحك، ولا يجوز ويضحك‏.‏ فأما قولهم‏:‏ قمت وأصك عينه ففي غاية الشذوذ‏.‏ وقد أوَّل على إضمار مبتدأ أي قمت وأنا أصك عينه، فتصير الجملة اسمية‏.‏ ويحتمل هذا التأويل هنا، أي‏:‏ ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كلِّه، لكن الأولى ما ذكرناه من كونها للعطف‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وتؤمنون بالكتاب كله يقتضي أن الآية في منافقي اليهود، لا منافقي العرب‏.‏

ويعترضها‏:‏ أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن، كما كان المنافقون من العرب، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيف القينقاعي‏.‏ فلم يبق إلا أنَّ قولهم‏:‏ آمنا، معناه صدّقنا أنه نبي مبعوث إليكم‏.‏ أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وأخوانكم لا نضمر لكم إلا المودّة، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة‏.‏ وهذا منزع قد حفظ أن كثيراً من اليهود كان يذهب إليه‏.‏ ويدل على هذا التأويل أنَّ المعادل لقولهم‏:‏ آمنا غض الأنامل من الغيظ، وليس فيه ما يقتضي الارتداد كما في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم‏}‏ بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودّة‏.‏ وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال‏:‏ هم الأباضية‏.‏ وهذه الصفة قد تترتب في أهل البدع من الناس إلى يوم القيامة انتهى كلامه‏.‏ وما ذكر من أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن إلاَّ ما روي من أمر زيد فيه نظر، فإنه قد روى أن جماعة منهم كانوا يعتمدون ذلك، ذكره البيهقي وغيره‏.‏ ولو لم يرو ذلك إلا عن زيد القينقاعي لكان في ذلك مذمة لهم بذلك، إذ وجد ذلك في جنسهم‏.‏ وكثيراً ما تمدح العرب أو تذم بفعل الواحد من القبيلة، ويؤيد صدور ذلك من اليهود قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره‏}‏

‏{‏وإذا لقوكم قالوا آمنا‏}‏ هذا الإخبار جرى على منازعتهم في التوراة والستر والخبث، إذ لم يذكروا متعلق الإيمان، ولكنَّهم يوهمون المؤمنين بهذا اللفظ أنهم مؤمنون‏.‏

‏{‏وإذا خلوا‏}‏ أي خلا بعضهم ببعض وانفردوا دونكم‏.‏ والمعنى‏:‏ خلت مجالسهم، منكم، فأسند الخلو إليهم على سبيل المجاز‏.‏

‏{‏عضوا عليكم الأنامل من الغيظ‏}‏ وظاهره فعل ذلك، وأنه يقع منهم عض الأنامل لشدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذ ما يريدون‏.‏ ومنه قول أبي طالب‏:‏

وقد صالحوا قوماً علينا أشحة *** يعضون عضاً خلفنا بالأباهم

وقال الآخر‏:‏

إذا رأوني أطال الله غيظهم *** عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم

وقال الآخر‏:‏

وقد شهدت قيس فما كان نصرها *** قتيببة إلا عضها بالأباهم

وقال الحرث بن ظالم المرّي‏:‏

وأقتل أقواماً لئاماً أذلة *** يعضون من غيظ رؤوس الأباهم

ويوصف المغتاظ والنادم بعضّ الأنامل والبنان والإبهام‏.‏ وهذا العض هو بالأسنان، وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغاضبة‏.‏ كما أن ضرب اليد على اليد يتبع هيئة النفس المتلهفة على فائت قريب الفوت‏.‏ وكما أن قرع السن هيئة تتبع هيئة النفس النادمة، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم ونحوه‏.‏ ويحتمل أن لا يكون ثَمَّ عض أنامل، ويكون ذلك من مجاز التمثيل عبر بذلك عن شدة الغيظ، والتأسف على ما يفوتهم من إذايتكم‏.‏

ونبه تعالى بهذه الآية على أن من كان بهذه الأوصاف من‏:‏ بغض المؤمنين، والكفر بالقرآن، والرياء بإظهار ما لا ينطوي عليه باطنه، جدير بأن لا يتخذ صديقاً‏.‏

‏{‏قل موتوا بغيظكم‏}‏ ظاهره‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم أمر بأن يقول لهم ذلك‏.‏ وهي صيغة أمر، ومعناها الدّعاء‏:‏ أذن الله لنبيه أن يدعو عليهم لمّا يئس من إيمانهم، هذا قول الطبري‏.‏ وكثير من المفسرين قالوا‏:‏ فله أن يدعو مواجهة‏.‏ وقيل‏:‏ أمر هو وأمته أن يواجهوهم بهذا‏.‏ فعلى هذا زال معنى الدعاء، وبقي معنى التقريع، قاله‏:‏ ابن عطية‏.‏ وقيل‏:‏ صورته أمر، ومعناه الخبر، والباء للحال أي تموتون ومعكم الغيظ وهو على جهة الذم على قبيح ما عملوه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ دعا عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به‏.‏ والمراد بزيادة الغيظ ما يغيظهم من قوة الإسلام وعزة أهله، وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار انتهى كلامه‏.‏ وليس ما فسر به ظاهر قوله‏:‏ قل موتوا بغيظكم، ويكون ما قاله الزمخشري يشبه قولهم‏:‏ مت بدائك، أي أبقى الله داءك حتى تموت به‏.‏ لكنْ في لفظ الزمخشري زيادة الغيظ، ولا يدل عليه لفظ القرآن‏.‏ قال بعض شيوخنا‏:‏ هذا ليس بأمر جازم، لأنه لو كان أمراً لماتوا من فورهم كما جاء فقال لهم الله‏:‏ موتوا‏.‏ وليس بدعاء، لأنه لو أمره بالدعاء لماتوا جميعهم على هذه الصفة، فإن دعوته لا ترد‏.‏ وقد آمن منهم بعد هذه الآية كثير، وليس بخبر لأنه لو كان خبر الوقع على حكم ما أخبر به يعني ولم يؤمن أحد بعد، وإنما هو أمر معناه التوبيخ والتقريع كقوله‏:‏ اعملوا ما شئتم، إذا لم تستح فاصنع ما شئت‏.‏ قيل‏:‏ ويجوز أن لا يكون ثم قول، وإنْ يكون أمراً بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله أن يهلكوا غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به، كأنه قيل‏:‏ حدث نفسك بذلك‏.‏

‏{‏إن الله عليم بذات الصدور‏}‏ قيل‏:‏ يجوز أن يكون من جملة المقول، والمعنى‏:‏ أخبرْهُم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا وقل لهم‏:‏ إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرّونه بينكم وهو مضمرات الصدور، فلا تظنوا أن شيئاً من أسراركم يخفى عليه‏.‏ ويجوز أنْ لا تدخل تحت القول، ومعناه‏:‏ قل لهم ذلك، ولا تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو مضمرات صدورهم لم يظهروه بألسنتهم‏.‏ والظاهر الأول أورد ذلك على أنّه وعيد مواجهون به‏.‏

والذات لفظ مشترك ومعناه هنا أنه تأنيث ذي بمعنى صاحب‏.‏ فأصله هنا عليم بالمضمرات ذوات الصدور، ثم حذف الموصوف، وغلبت إقامة الصفة مقامه‏.‏

ومعنى صاحبة الصدور‏:‏ الملازمة له التي لا تنفك عنه كما تقول‏:‏ فلان صاحب فلان، ومنه أصحاب الجنة أصحاب النار‏.‏ واختلفوا في الوقف على ذات‏.‏ فقال الأخفش والفراء وابن كيسان‏:‏ بالتاء مراعاة لرسم المصحف‏.‏ وقال الكسائي والجرمي‏:‏ بالهاء لأنها تاء تأنيث‏.‏

‏{‏إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها‏}‏ الحسنة هنا ما يسر من رخاء وخصب ونصرة وغنيمة، ونحو ذلك من المنافع‏.‏ والسيئة ضد ذلك‏.‏ بين تعالى بذلك فرط عداوتهم حيث يسوءهم ما نال المؤمنين من الخير، ويفرحون بما يصيبهم من الشدة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ المس مستعار لمعنى الإصابة، فكان المعنى واحداً‏.‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة‏}‏ الآية ‏{‏ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏}‏ ‏{‏إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً‏}‏ وقال ابن عطية‏:‏ ذكر الله تعالى المس في الحسنة ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين، ثم عادل ذلك في السيئة بلفظ الإصابة، وهي عبارة عن التمكن‏.‏ لأن الشيء المصيب لشيء هو متمكن منه، أو فيه‏.‏ فدل هذا النوع البليغ على شدة العداوة، إذ هو حقد لا يذهب عند نزول الشدائد، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين انتهى كلامه‏.‏ والنكرة هنا في سياق الشرط بأن تعم عموم البدل، ولم يأت معرفاً لإيهام التعيين بالعهد، ولإيهام العموم الشمولي‏.‏ وقابل الحسنة بالسيئة، والمساءة بالفرح وهي مقابلة بديعة‏.‏

قال قتادة والربيع وابن جريج‏:‏ الحسنة بظهوركم على العدو، والغنيمة منهم، والتتابع بالدخول في دينكم، وخصب معاشكم‏.‏ والسيئة بإخفاق سرية منكم، أو إصابة عدو منكم، أو اختلاف بينكم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الحسنة الألفة، واجتماع الكلمة‏.‏ والسيئة إصابة العدو، واختلاف الكلمة‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الحسنة النعمة‏.‏ والسيئة المصيبة‏.‏ وهذه الأقوال هي على سبيل التمثيل، وليست على سبيل التعيين‏.‏

‏{‏وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وإن تصبروا على أذاهم، وتتقوا الله، ولا تقنطوا، ولا تسأموا أذاهم وإن تكرر‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ وإنْ تصبروا على أمر الله، وتتقوا مباطنتهم‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ وإنْ تصبروا على الإيمان وتتقوا الشرك‏.‏ وقيل‏:‏ وإنْ تصبروا على الطاعة وتتقوا المعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ وإن تصبروا على حربهم‏.‏ والذي يظهر أنه لم يذكر هنا متعلق الصبر، ولا متعلق التقوى‏.‏ لكنَّ الصبر هو حبس النفس على المكروه، والتقوى اتخاذ الوقاية من عذاب الله‏.‏ فيحسنُ أنْ يقدَّرَ المحذوف من جنس ما دل عليه لفظ الصبر ولفظ التقوى‏.‏ وفي هذا تبشير للمؤمنين، وتثبيت لنفوسهم، وإرشاد إلى الاستعانة على كيد العدو بالصبر والتقوى‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ أن تمسسكم بالتاء‏.‏ وقرأ السلمي بالياء معجمة من أسفل، لأن تأنيث الحسنة مجازى‏.‏ وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحمزة في رواية عنه‏:‏ لا يضركم من ضار يضير‏.‏ ويقال‏:‏ ضار يضور، وكلاهما بمعنى ضرَّ‏.‏

وقرأ الكوفيون وابن عامر‏:‏ لا يضرُّكم بضم الضاد والراء المشدّدة، من ضرّ يَضُرُّ‏.‏ واختلف، أحركةُ الراء إعرابٌ فهو مرفوعٌ أم حركة اتباع لضمة الضاد وهو مجزوم كقولك‏:‏ مدّ‏؟‏ ونسب هذا إلى سيبويه، فخرج الإعراب على التقديم‏.‏ والتقدير‏:‏ لا يضركم أن تصبروا، ونسب هذا القول إلى سيبويه‏.‏ وخرج أيضاً على أنّ لا بمعنى ليس، مع إضمار الفاء‏.‏ والتقدير‏:‏ فليس يضركم، وقاله‏:‏ الفراء والكسائي‏.‏ وقرأ عاصم فيما روى أبو زيد عن المفضل عنه‏:‏ بضم الضاد، وفتح الراء المشددة‏.‏ وهي أحسن من قراءة ضم الراء نحو لم يرد زيد، والفتح هو الكثير المستعمل‏.‏ وقرأ الضحاك‏:‏ بضم الضاد، وكسر الراء المشدّدة على أصل التقاء الساكنين‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ فأما الكسر فلا أعرفه قراءة، وعبارة الزجاج في ذلك متجوز فيها، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة انتهى‏.‏ وهي قراءة كما ذكرنا عن الضحاك‏.‏ وقرأ أبيُّ لا يضرركم بفك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز، وعليها في الآية إن يمسَسْكم‏.‏ ولغة سائر العرب الإدغام في هذا كله‏.‏

‏{‏إن الله بما يعملون محيط‏}‏ من قرأ بالياء فهو وعيد، والمعنى‏:‏ محيط جزاؤه‏.‏ وعبر بالإحاطة عن الاطلاع التام والقدرة والسلطان‏.‏ ومن قرأ بالتاء وهو‏:‏ الحسن بن أبي الحسن فعلى الالتفات للكفار، أو على إضمار قل‏:‏ لهم يا محمد‏.‏ أو على أنه خطاب للمؤمنين تضمن توعدهم في اتخاذ بطانة من الكفار‏.‏

قالوا‏:‏ وتضمنت هذه الآيات ضروباً من البلاغة والفصاحة‏.‏ منها‏:‏ الوصل والقطع في ‏{‏ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة‏}‏‏.‏ والتكرار‏:‏ في أصحاب النار هم‏.‏ والعدول عن اسم الفاعل إلى غيره‏:‏ في يتلون وما بعده، وفي يظلمون‏.‏ والاكتفاء بذكر بعض الشيء عن كله إذا كان فيه دلالة على الباقي في‏:‏ يؤمنون بالله واليوم الآخر‏.‏ والمقابلة‏:‏ في تأمرون وتنهون، وفي المعروف والمنكر‏.‏ ويجوز أن يكون طباقاً معنوياً، وفي حسنة وسيئة، وفي تسؤهم ويفرحوا‏.‏ والاختصاص‏:‏ في عليم بالمتقين، وفي أموالهم ولا أولادهم، وفي كمثل ريح، وفي حرث قوم ظلموا أنفسهم، وفي بذات الصدور‏.‏ والتشبيه‏:‏ في مثل ما ينقون، وفي بطانة، وفي عضوا عليكم الأنامل من الغيظ على أحد التأويلين، وفي تمسسكم حسنة وتصبكم سيئة‏.‏ شبه حصولهما بالمس والإصابة، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، والصحيح أن هذه استعارة‏.‏ وفي محيط شبه القدرة على الأشياء والعلم بها بالشيء المحدق بالشيء من جميع جهاته، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس‏.‏ والتجنيس المماثل‏:‏ في ظلمهم ويظلمون، وفي تحبونهم ولا يحبونكم، وفي تؤمنون وآمنا، وفي من الغيظ وبغيظكم‏.‏ والالتفات‏:‏ في وما تفعلوا من خير فلن تكفروه على قراءة من قرأ بالتاء، وفي ما تعملون محيط على أحد الوجهين‏.‏ وتسمية الشيء باسم محله‏:‏ في من أفواههم عبر بها عن الألسنة لأنها محلها‏.‏ والحذف في مواضع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 127‏]‏

‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏121‏)‏ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏122‏)‏ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ‏(‏124‏)‏ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ‏(‏125‏)‏ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏126‏)‏ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

غدا الرجل‏:‏ خرج غدوة‏.‏ والغدو يكون في أول النهار‏.‏ وفي استعمال غدا بمعنى صار، فيكون فعلاً ناقصاً خلاف‏.‏

الهم‏:‏ دون العزم، والفعل منه هم يهمُّ‏.‏ وتقول العرب‏:‏ هممْتُ وهمَّتْ يحذفون أحد المضعفين كما قالوا‏:‏ أمست، وظلّت، وأحست، في مسست وظللت وأحسست‏.‏ وأوّلُ ما يمر الأمر بالقلب يسمى خاطراً، فإذا تردد صار حديث نفس، فإذ ترجَّح فعله صار هماً، فإذا قوي واشتد صار عزماً، فإذا قوي العزم واشتدّ حصل الفعل أو القول‏.‏

الفشل في البدن‏:‏ الإعياء‏.‏ وفي الحرب‏:‏ الجبن والخور، وفي الرأي‏:‏ العجز والفساد‏.‏ وفعله‏:‏ فشِل بكسر الشين‏.‏

التوكل‏:‏ تفعل من وكل أمره إلى فلان، إذا فوَّضه له‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ هو إظهار العجز والاعتماد على غيرك، يقال‏:‏ فلان وكلة تكلة، أي عاجز يكل أمره إلى غيره‏.‏ وقيل‏:‏ هو من الوكالة، وهو تفويض الأمر إلى غيره ثقة بحسن تدبيره‏.‏

بدر في الآية‏:‏ اسم علم لما بين مكة والمدينة‏.‏ سمي بذلك لصفائه، أو لرؤية البدر فيه لصفائه، أو لاستدارته‏.‏ قيل‏:‏ وسمي باسم صاحبه بدر بن كلدة‏.‏ قيل‏:‏ بدر بن بجيل بن النضر بن كنانة‏.‏ وقيل‏:‏ هو بئر لغفار‏.‏ وقيل‏:‏ هو اسم وادي الصفراء‏.‏ وقيل‏:‏ اسم قرية بين المدينة والحجاز‏.‏

الفور‏:‏ العجلة والإسراع‏.‏ تقول‏:‏ اصنع هذا على الفور‏.‏ وأصلُه من فارت القدر اشتد غليانها، وبادر ما فيها إلى الخروج‏.‏ ويقال‏:‏ فار غضبه إذا جاش وتحرك‏.‏ وتقول‏:‏ خرج من فوره، أي من ساعته، لم يلبث استعير الفور للسرعة، ثم سميت به الحالة التي لا ريب فيها ولا تعريج على شيء من صاحبها‏.‏

الخمسة‏:‏ رتبة من العدد معروفة، ويصرف منها فعل يقال‏:‏ خمست الأربعة أي صيرتهم في خمسة‏.‏

الطرف‏:‏ جانب الشيء الأخير، ثم يستعمل للقطعة من الشيء، وإنْ لم يكن جانباً أخيراً‏.‏ الكبت‏:‏ الهزيمة‏.‏ وقيل‏:‏ الصرع على الوجه أو إلى اليدين‏.‏ وقال النقاش وغيره‏:‏ التاء بدل من الدال‏.‏ أصله‏:‏ كبده، أي فعل فعلاً يؤذي كبده‏.‏ الخيبة‏:‏ عدم الظفر بالمطلوب‏.‏

‏{‏وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال‏}‏ قال المسور بن مخرمة‏:‏ قلت لعبد الرحمن بن عوف‏:‏ أيْ خال أخبرني عن قصتكم يوم أحد، فقال‏:‏ اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجد‏:‏ ‏{‏وإذ غدوت من أهلك- إلى- ثم أنزل عليكم‏}‏ ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما نهاهم عن اتخاذ بطانةٍ مِن الكفار ووعدهم أنّهم إنْ صبروا واتقوا فلا يضرُّكم كيدهم‏.‏ ذكرهم بحالة اتفق فيها بعض طواعية، واتباع لبعض المنافقين، وهو ما جرى يوم أحد لعبد الله بن أبي بن سلول حين انخذل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعه في الانخذال ثلاثمائة رجل من المنافقين وغيرهم من المؤمنين‏.‏

والجمهور على أن ذلك كان في غزوة أحد، وفيها نزلت هذه الآيات كلها، وهو قول‏:‏ عبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، والزهري، والسدي، وابن إسحاق‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كان هذا الغدو في غزوة الأحزاب‏.‏ وهو قول‏:‏ مجاهد، ومقاتل، وهو ضعيف‏.‏ لأن يوم الأحزاب كان فيه ظفر المؤمنين، ولم يجر فيه شيء مما ذكر في هذه الآيات بل قصتاهما متباينتان‏.‏ وقال الحسن أيضاً‏:‏ كان هذا الغدو يوم بدر‏.‏ وذكر المفسرون قصة غزوة أحد وهي مستوعبة في كتب السير، ونحن نذكر منها ما يتعلق بألفاظ الآية بعض تعلقٍ عند تفسيرها‏.‏ وظاهر قوله‏:‏ وإذ غدوت، خروجه غدوة من عند أهله‏.‏ وفسر ذلك بخروجه من حجرة عائشة يوم الجمعة غدوة حين استشار الناس، فمِنْ مشير بالإقامة وعدم الخروج إلى القتال‏.‏ وأن المشركين إنْ جاؤوا قاتلوهم بالمدينة، وكان ذلك رأيه صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومن مشير بالخروج وهم‏:‏ جماعة من صالحي المؤمنين فأتتهم وقعة بدر وتبوئة المؤمنين مقاعد للقتال، على هذا القول هو أن يقسمَ أفطار المدينة على قبائل الأنصار‏.‏ وقيل‏:‏ غدوه هو نهوضه يوم الجمعة بعد الصلاة وتبوئته في وقت حضور القتال‏.‏ وسماه غدواً إذ كان قد عزم عليه غدوة‏.‏ وقيل‏:‏ غدوه كان يوم السبت للقتال‏.‏ ولما لم تكن تلك الليلة موافقة للغدو وكأنه كان في أهله، والعامل في إذا ذكر‏.‏ وقيل‏:‏ هو معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏قد كان لكم آية في فئتين التقتا‏}‏ أي وآية إذ غدوت، وهذا في غاية البعد‏.‏ ولولا أنه مسطور في الكتب ما ذكرته‏.‏ وكذلك قولُ مَنْ جعل من في معنى مع، أي‏:‏ وإذ غدوت مع أهلك‏.‏ وهذه تخريجات يقولها وينقلها على سبيل التجويز من لا بصر له بلسان العرب‏.‏ ومعنى تبويّء تنزل، من المباءة وهي المرجع ومنه ‏{‏لنبوئنهم من الجنة غرفاً‏}‏ فليتبوأ مقعده من النار، وقال الشاعر‏:‏

كم صاحب لي صالح *** بوّأته بيديّ لحدا

وقال الأعشى‏:‏

وما بوّأ الرحمن بيتك منزلا *** بشرقيّ أجياد الصفا والمحرم

ومقاعد‏:‏ جمع مقعد، وهو هناك مكان القعود‏.‏ والمعنى‏:‏ مواطن ومواقف‏.‏ وقد استعمل المقعد والمقام في معنى المكان‏.‏ ومنه‏:‏ ‏{‏في مقعد صدق‏}‏ ‏{‏قبل أن تقوم من مقامك‏}‏

وقال الزمخشري‏:‏ وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار انتهى‏.‏ أمّا إجراء قعد مجرى صار فقال أصحابنا‏:‏ إنما جاء في لفظة واحدة وهي شاذة لا تتعدى، وهي في قولهم‏:‏ شحذ شفرته حتى قعدت كأنها حربة، أي صارت‏.‏ وقد نقد على الزمخشري تخريج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتقعد ملوماً‏}‏ على أن معناه‏:‏ فتصير، لأن ذلك عند النحويين لا يطرد‏.‏ وفي اليواقيت لأبي عمر الزاهد قال ابن الأعرابي‏:‏ القعد الصيرورة، والعرب تقول‏:‏ قعد فلان أميراً بعدما كان مأموراً أي صار‏.‏ وأمّا إجراء قام مجرى صار فلا أعلم أحداً عدّها في أخوات كان، ولا ذكر أنها تأتي بمعنى صار، ولا ذكر لها خبراً إلا أبا عبد الله بن هشام الحضراوي فإنه قال في قول الشاعر‏:‏

على ما قام يشتمني لئيم *** إنها من أفعال المقاربة

وقال ابن عطية‏:‏ لفظة القعود أدل على الثبوت، ولا سيما أنّ الرماة إنما كانوا قعوداً، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولاً، والمبارزة والسرعان يجولون‏.‏ وجمع المقاعد لأنه عيّن لهم مواقف يكونون فيها‏:‏ كالميمنة والميسرة، والقلب، والشاقة‏.‏ وبيّن لكل فريق منهم موضعهم الذي يقفون فيه‏.‏

خرج صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الجمعة، وأصبح بالشعب يوم السبت للنصف من شوال، فمشى على رجليه، فجعل يصفّ أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح‏.‏ إنْ رأى صدراً خارجاً قال‏:‏ «تأخر»، وكان نزوله في غدوة الوادي، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد‏.‏ وأمر عبد الله بنَ جبير على الرماة وقال لهم‏:‏ «انصحوا عنا بالنبل» لا يأتونا من ورائنا «‏.‏

وتبوئ جملة حالية من ضمير المخاطب‏.‏ فقيل‏:‏ هي حال مقدرة، أي خرجت قاصد التبوئة، لأن وقت الغدوّ لم يكن وقت التبوئة‏.‏ وقرأ الجمهور تبوئ من بوّأ‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ تبوِّئ من أبوأ، عداه الجمهور بالتضعيف، وعبد الله بالهمزة‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب‏:‏ تبوى بوزن تحيا، عداه بالهمزة، وسهل لام الفعل بإبدال الهمزة ياء نحو‏:‏ يقرى في يقرئ‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ للمؤمنين بلام الجر على معنى‏:‏ ترتب وتهيئ‏.‏ ويظهر أنَّ الأصل تعديته لواحد بنفسه، وللآخر باللام لأن ثلاثيه لا يتعدى بنفسه، إنما يتعدى بحرف جر‏.‏

وقرأ الأشهب‏:‏ مقاعد القتال على الإضافة، وانتصاب مقاعد على أنه مفعول ثان لتبوى‏.‏ ومَنْ قرأ للمؤمنين كان مفعولاً لتبوئ، وعداه باللام كما في قوله‏:‏ ‏{‏وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت‏}‏ وقيل‏:‏ اللام في لابراهيم زائدة، واللام في للقتال لام العلة تتعلق بتبوئ‏.‏ وقيل‏:‏ في موضع الصفة لمقاعد‏.‏ وفي الآية دليل على أن الأئمة هم الذين يتولون أمر العساكر ويختارون لهم المواضع للحرب، وعلى الأجناد طاعتهم قاله‏:‏ الماتريدي‏.‏ وهو ظاهر‏.‏

‏{‏والله سميع عليم‏}‏ أي سميع وقوالكم، عليم بنياتكم‏.‏ وجاءت هاتان الصفتان هنا لأنّ في ابتداء هذه الغزوة مشاورة ومجاوبة بأقوال مختلفة، وانطواء على نيات مضطربة حبسما تضمنته قصة غزوة أُحد‏.‏

‏{‏إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا‏}‏ الطائفتان‏:‏ بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وهما الجناحان قاله‏:‏ ابن عباس، وجابر، والحسن، وقتادة، ومجاهد، والربيع، والسدي، وجمهور المفسرين‏.‏ وقيل‏:‏ الطائفتان هما من الأنصار والمهاجرين‏.‏

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في ألف‏.‏ وقيل‏:‏ في تسعمائة وخمسين، والمشركون في ثلاثة آلاف‏.‏ ووعدهم الفتح إن صبروا، فانخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس‏.‏ وسببُ انخذاله أنه أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين شاوره رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشاوره قبلها، فأشار عليه بالمقام في المدينة فلم يفعل وخرج، فغضب عبد الله وقال‏:‏ أطاعهم، وعصاني‏.‏

وقال‏:‏ يا قوم على مَ نقتل أنفسنا وأولادنا، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري‏.‏ وفي رواية أبو جابر السلمي فقال‏:‏ أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم‏.‏ فقال عبد الله‏:‏ لو نعلمُ قتالاً لاتبعناكم، فهم الجبان باتباع عبد الله، فعصمهم الله ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أضمروا أن يرجعوا، فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا، وهذا لهمّ غير مؤاخذ به، إذ ليس بعزيمة، إنما هو ترجيح من غير عزم‏.‏ ولا شك أن النفس عندما تلاقي الحروب ومن يجالدها يزيد عليها مثلين وأكثر، يلحقها بعض الضعف عن الملاقاة، ثم يوطئها صاحبها على القتال فتثبت وتستقر‏.‏ ألا ترى إلى قول الشاعر‏:‏

وقولي‏:‏ كلما جشأت وجاشت *** مكانك تحمدي أو تستريحي

‏{‏وإذ همت‏}‏‏:‏ بدل من إذ غدوت‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أو عمل فيه معنى سميع عليم انتهى‏.‏ وهذا غير محرر، لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين، فتحريره أن يقول‏:‏ أو عمل فيه معنى سميع أو عليم، وتكون المسألة من باب التنازع‏.‏ وجوز أن يكون معمولاً لتبوى، ولغدوت‏.‏ وهمّ يتعدى بالباء، فالتقدير‏:‏ بأن تفشلا والمعنى‏:‏ أن تفشلا عن القتال‏.‏ وأما أحسن قول الشاعر في التحريض على القتال والنهي عن الفشل‏:‏

قاتلوا القوم بالخداع ولا *** يأخذكم عن قتالهم فشل

القوم أمثالكم لهم شعر *** في الرأس لا ينشرون إن قتلوا

وأدغم السبعة تاء التأنيث في الطاء، وعن قالون خلاف ذكرناه في عقد اللآلئ في القراءات السبع العوالي من إنشائنا‏.‏ والظاهر أن هذا الهم كان عند تبوئة الرسول صلى الله عليه وسلم مقاعد للقتال وانخذال عبد الله بمن انخذل‏.‏ وقيل‏:‏ حين أشاروا عليه بالخروج وخالفوا عبد الله بن أبي‏.‏ وفي قوله‏:‏ طائفتان إشارة لطيفة إلى الكناية عن من يقع منه ما لا يناسب والستر عليه، إذ لم يعين الطائفتين بأنفسهما، ولا صرح بمن هما منه من القبائل ستراً عليهما‏.‏

‏{‏والله وليهما‏}‏ معنى الولاية هنا التثبيت والنصر، فلا ينبغي لهما أن يفشلا‏.‏ وقيل‏:‏ جعلها من أوليائه المثابرين على طاعته‏.‏ وفي البخاري عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال‏:‏ فينا نزلت ‏{‏إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما‏}‏ قال‏:‏ نحن الطائفتان بنو حارثة، وبنو سلمة‏.‏ وما تحب أنها لم تنزل لقول الله‏:‏ ‏{‏والله وليهما‏}‏، قال ذلك جابر لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية، وأنّ تلك الهمة المصفوح عنها لكونها ليست عزماً، كانت سبباً لنزولها‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ والله وليهم أعاد الضمير على المعنى لا على لفظ التثنية، كقوله‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا‏}‏ ‏{‏هذان خصمان اختصموا‏}‏ وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب، بل جاءت مستأنفة لثناء الله على هاتين الطائفتين‏.‏

‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ لما ذكر تعالى ما همت به الطائفتان من الفشل، وأخبر تعالى أنه وليهما، ومَنْ كان الله وليه فلا يفوض أمره إلا إليه‏.‏ أمرهم بالتوكل عليه، وقدم المجرور للاعتناء بمن يتوكل عليه، أو للاختصاص على مذهب من يرى ذلك‏.‏ ونبّه على الوصف الذي يقتضي ذلك وهو الإيمان، لأنَّ مَنْ آمن بالله خير أن لا يكون اتكاله إلا عليه، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين‏}‏ وأتى به عاماً لتندرج الطائفتان الهامّتان وغيرهم في هذا الأمر، وأن متعلقة من قام به الإيمان‏.‏ وفي هذا الأمر تحريض على التغبيط بما فعلته الطائفتان من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسير معه‏.‏

‏{‏ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة‏}‏ لمّا أمرهم بالتوكل عليه ذكّرهم بما يوجب التوكل عليه، وهو ما سنى لهم ويسر من الفتح والنصر يوم بدر، وهم في حال قلة وذلة، إذ كان ذلك النصر ثمرة التوكل عليه والثقة به‏.‏ والنصر المشار إليه ببدر بالملائكة، أو بإلقاء الرعب، أو بكف الحصى التي رمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بإرادة الله لقوله‏:‏ ‏{‏وما النصر إلا من عند الله‏}‏ أقوال‏.‏

والجملة من قوله‏:‏ وأنتم أذلة حال من المفعول في نصركم، والمعنى‏:‏ وأنتم أذلة في أعين غيركم، إذ كانوا أعزة في أنفسهم، وكانوا بالنسبة إلى عدوهم، وجميع الكفار في أقطار الأرض عند المتأمل مغلوبين‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد»

والأذلة‏:‏ جمع ذليل‏.‏ وجمع الكثرة ذلان، فجاء على جمع القلة ليدل أنهم كانوا قليلين‏.‏ والذلة التي ظهرت لغيرهم عليهم هي ما كانوا عليه من الضعف وقلة السلاح والمال والمركوب‏.‏ خرجوا على النواضح يعتقب النفر على البعير الواحد، وما كان معهم من الخيل إلا فرس واحد، ومع عدوهم مائة فرس‏.‏ وكان عدد المسلمين ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر رجلاً‏:‏ سبعة وسبعون من المهاجرين وصاحب رايتهم علي بن أبي طالب، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار وصاحب رايتهم سعد بن عبادة‏.‏ وقيل‏:‏ ثلاثمائة وستة عشر رجلاً‏.‏ وقيل‏:‏ ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً‏.‏ وفي رواية‏:‏ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً‏.‏ وكان عدوهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل‏.‏ وما أحسن قول الشاعر‏:‏

وقائلة ما بال أسوة عاديا *** تفانت وفيها قلة وخمول

تعيرنا أنا قليل عديدنا *** فقلت لها إن الكرام قليل

وما ضرنا أنا قليل وجارنا *** عزيز وجار الأكثرين ذليل

والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد قريش، وعلى يوم بدر انبنى الإسلام‏.‏ وكان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان لثمانية عشر شهراً من الهجرة‏.‏

‏{‏فاتقوا الله لعلكم تشكرون‏}‏ أمر بالتقوى مطلقاً‏.‏

وقيل‏:‏ في الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجيه الشكر إمّا على الإنعام السابق بالنصر يوم بدر، أو على الإنعام المرجو أنْ يقع‏.‏ فكأنه قيل‏:‏ لعلكم ينعم عليكم نعمة أخرى فتشكرونها‏.‏ وضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له‏.‏

‏{‏إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين‏}‏ ظاهر هذه الآية اتصالها بما قبلها، وأنّها من قصة بدر، وهو قول الجمهور، فيكون إذ معمولاً لنصركم‏.‏ وقيل‏:‏ هذا من تمام قصة أحد، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏ولقد نصركم الله ببدر‏}‏ معترضاً بين الكلامين لما فيه من التحريض على التوكل والثبات للقتال‏.‏ وحجة هذا القول أن يوم بدر كان المدد فيه من الملائكة بألف، وهنا بثلاثة آلاف وخمسة آلاف‏.‏ والكفار يوم بدر كانوا ألفاً، والمسلمون على الثلث‏.‏ فكان عدد الكفار ثلاثة آلاف، فوعدوا بثلاثة آلاف من الملائكة‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏ويأتوكم من فورهم‏}‏، أي الإمداد‏.‏ ويوم بدر ذهب المسلمون إليهم‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ كيف يصح أن يقوله لهم يوم أُحد، ولم ينزل فيه الملائكة‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم‏.‏ فلم يصبروا عن الغنائم، ولم يتقوا حيث خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك لم تنزل الملائكة، ولو تموا على ما شرط عليهم لنزلت‏.‏ وإنما قدّم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات، ويثقوا بنصر الله انتهى كلامه‏.‏

وقوله‏:‏ لم تنزل فيه الملائكة ليس مجمعاً عليه، بل قال مجاهد‏:‏ حضرت فيه الملائكة ولم تقاتل، فعلى قول مجاهد يسقط السؤال‏.‏ وقوله‏:‏ قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم، فلم يصبروا عن الغنائم، ولم يتقوا إلى آخره المشروط بالصبر والتقوى هو الإمداد بخمسة آلاف‏.‏ أمّا الإمداد الأوّل وهو بثلاثة آلاف فليس بمشروط، ولا يلزم من عدم إنزال خمسة آلاف لفوات شرطه أن لا ينزل ثلاثة آلاف، ولا شيء منها، وأجيب عن عدم إنزال ثلاثة آلاف‏:‏ أنه وعدٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال، وأمرهم بالسكون والثبات فيها، فكان هذا الوعد مشروطاً بالثبوت في تلك المقاعد‏.‏ فلما أهملوا الشرط لم يحصل المشروط انتهى‏.‏ ولا خفاء بضعف هذا الجواب‏.‏ قال الضحاك‏:‏ كان هذا الوعد والمقالة للمؤمنين يوم أحد، ففرّ الناس وولوا مدبرين فلم يهدهم الله، وإنما مدوا يوم بدر بألف من الملائكة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ لم يصبروا‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ لم يصبروا، ولم يتقوا يوم أحد، فلم يمدوا‏.‏ ولو مدوا لم ينهزموا‏.‏ وكان الوعد بالإمداد يوم بدر، ورجح أنه قال ذلك يوم بدر، فظاهر اتصال الكلام‏.‏ ولأن قلة العدد، والعدد كان يوم بدر، فكانوا إلى تقوية قلوبهم بالوعد أحوج‏.‏ ولأنّ الوعد بثلاثة آلاف كان، غير مشروط، فوجب حصوله‏.‏ وإنما حصل يوم بدر والجمع بين ألف وثلاثة آلاف كان غير مشروط، فوجب حصوله، وإنما حصل يوم بدر أنهم مدوا أولاً بألف، ثم زيد فيهم ألفان، وصارت ثلاثة آلاف‏.‏

أو مدوا بألف أولاً، ثم بلغهم إمداد المشركين بعدد كثير، فوعد بالخمسة على تقدير إمداد الكفار‏.‏ فلم يمد الكفار، فاستغنى عن إمداد المسلمين‏.‏

والظاهر في هذه الأعداد إدخال الناقص في الزائد، فيكون وعدوا بألف، ثم ضم إليه ألفان، ثم ألفان، فصار خمسة‏.‏ ومن ضم الناقص إلى الزائد وجعل ذلك في قصة أحد، فيكونون قد وعدوا بثمانية آلاف‏.‏ أو في قصة بدر فيكونون قد وعدوا بتسعة آلاف‏.‏ ولم تتعرض الآية الكريمة لنزول الملائكة، ولا لقتالهم المشركين وقتلهم، بل هو أمر مسكوت عنه في الآية‏.‏ وقد تظاهرت الروايات وتظافرت على أن الملائكة حضرت بدراً وقاتلت‏.‏ ذكر ذلك ابن عطية عن جماعة من الصحابة بما يوقف عليه في كتابه‏.‏ ولما لم تتعرض له الآية لم نكثر كتابنا بنقله‏.‏ وذكر ابن عطية أن الشعبي قال‏:‏ لم تمد المؤمنون بالملائكة يوم بدر، وكانت الملائكة بعد ذلك تحضر حروب النبي صلى الله عليه وسلم مدداً، وهي تحضر حروب المسلمين إلى يوم القيامة‏.‏ قال‏:‏ وخالف الناس الشعبي في هذه المقالة، وذكر أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ما نصه وأجمع أهل التفسير والسير‏:‏ على أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار‏.‏ ثم قال‏:‏ وأما أبو بكر الأصم فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار، وذكر عنه حججاً ثم قال‏:‏ وكل هذه الشبه تليق بمن ينكر القرآن والنبوّة، لأن القرآن والسنة ناطقان بذلك، يعني بإنزال الملائكة‏.‏ ثم قال‏:‏ واختلفوا في نصرة الملائكة‏.‏ فقيل‏:‏ بالقتال‏.‏ وقيل‏:‏ بتقوية نفوس المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الكفار‏.‏ والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال، وأن يكون مجرد حضورهم كافياً انتهى كلامه‏.‏

ودخلت أداة الاستفهام على حرف النفي على سبيل الإنكار، لانتفاء الكفاية بهذا العدد من الملائكة‏.‏ وكان حرف النفي «لن» الذي هو أبلغ في الاستقبال من لا، إشعاراً بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكتهم كالآيسين من النصر‏.‏

وبلى‏:‏ إيجاب لما بعد لن، يعني‏:‏ بلى يكفيكم الإمداد بهم، فأوجب الكفاية‏.‏ وفي مصحف أبيّ‏:‏ ألا يكفيكم انتهى‏.‏ ومعظمه من كلام الزمخشري‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ ألن يكفيَكُم تقرير على اعتقادهم الكفاية في هذا العدد من الملائكة‏؟‏ ومن حيث كان الأمر بيناً في نفسه أن الملائكة كافية، بادر المتكلم إلى جواب ليبني ما يستأنف من قوله عليه فقال‏:‏ بلى، وهي جواب المقررين‏.‏ وهذا يحسن في الأمور البينة التي لا محيد في جوابها، ونحوه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أي شيء أكبر شهادة قل الله‏}‏ انتهى‏.‏ وقال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي‏:‏ ألن يكفيكم جواب الصحابة حين قالوا‏:‏ هلا أعلمتنا بالقتال لنتأهب‏.‏

فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألن يكفيكم» قال ابن عيسى‏:‏ والكفاية مقدار سد الخلة، والإمداد إعطاء الشيء حالاً بعد حال انتهى‏.‏

وقرأ الحسن‏:‏ بثلاثة آلاف يقف على الهاء، وكذلك بخمسة آلاف‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ووجه هذه القراءة ضعيف، لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال، إذ هما كالاسم الواحد، وإنما الثاني كمال الأول‏.‏ والهاء إنما هي أمارة وقف، فتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع‏.‏ فمن ذلك ما حكاه الفراء أنهم يقولون‏:‏ أكلت لحما شاة، يريدون لحم شاة، فمطلوا الفتحة حتى نشأت عنها ألف، كما قالوا في الوقف قالا‏:‏ يريدون‏.‏ قال‏:‏ ثم مطلوا الفتحة في القوافي ونحوها في مواضع الروية والتثبت‏.‏ ومن ذلك في الشعر قول الشاعر‏:‏

ينباع من زفرى غضوب جسرة *** زيانة مثل الغنيق المكرم

يريد ينبع فمطل‏.‏ ومنه قول الآخر‏:‏

أقول إذ حزت على الكلكال *** يا ناقتا ما جلت من مجال

يريد الكلكل فمطل‏.‏ ومنه قول الآخر‏:‏

فأنت من الغوائل حين ترمى *** ومن ذم الرجال بمنتزاح

يريد بمنتزح‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ فإذا جاز أن يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة الواحدة، جاز التمادي والتأني بين المضاف والمضاف إليه، إذ هما في الحقيقة إثنان انتهى كلامه‏.‏ وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مجرى الوقف، أبدلها هاء في الوصل، كما أبدلوا لها هاء في الوقف، وموجود في كلامهم إجراء الوصل مجرى الوقف، وإجراء الوقف مجرى الوصل‏.‏ وأما قوله‏:‏ لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة‏.‏ وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاءً في الوصل، وإنما هو نظير قولهم‏:‏ ثلاثة أربعة، أبدل التاء هاء، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها، وحذف الهمزة، فأجرى الوصل مجرى الوقف في الإبدال‏.‏ ولأجل الوصل نقل إذ لا يكون هذا النقل إلا في الوصل‏.‏

وقرئ شاذاً بثلاثة آلاف بتكسين التاء في الوصل، أجراه مجرى الوقف‏.‏ واختلفوا في هذه التاء الساكنة أهي بدل من الهاء التي يوقف عليها أم تاء التأنيث هي‏؟‏ وهي التي يوقف عليها بالتاء كما هي‏؟‏ وهي لغة‏.‏

وقرأ الجمهور منزلين بالتخفيف مبنياً للمفعول، وابن عامر بالتشديد مبنياً للمفعول أيضاً، والهمزة والتضعيف للتعدية فهما سيان‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ منزلين بتشديد الزاي وكسرها مبنياً للفاعل‏.‏ وبعض القراء بتخفيفها وكسرها مبنياً للفاعل أيضاً، والمعنى‏:‏ ينزلون النصر‏.‏

‏{‏إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين‏}‏ رتب تعالى على مجموع الصبر والتقوى وإتيان العدد من فورهم إمداده تعالى المؤمنين بأكثر من العدد السابق وعلّقه على وجودها، بحيث لا يتأخر نزول الملائكة عن تحليهم بثلاثة الأوصاف‏.‏

ومعنى من فورهم‏:‏ من سفرهم‏.‏ هذا قاله ابن عباس‏.‏ أو من وجههم هذا قاله‏:‏ الحسن، وقتادة، والسدي‏.‏ قيل‏:‏ وهي لغة هذيل، وقيس، وغيلان، وكنانة‏:‏ أو من غصبهم هذا قاله‏:‏ مجاهد، وعكرمة، والضحاك، وأبو صالح مولى أم هانئ أو معناه في نهضتهم هذه قاله‏:‏ ابن عطية‏.‏ أو المعنى من ساعتهم هذه قاله الزمخشري‏.‏

ولفظة الفور تدل على السرعة والعجلة‏.‏ تقول‏:‏ افعل هذا على الفور، لا على التراخي‏.‏ ومنه الفور في الحج والوضوء‏.‏ وفي إسناد الإمداد إلى لفظة ربكم دون غيره من أسماء الله إشعارٌ بحسن النظر لهم، واللطف بهم‏.‏

وقرأ الصاحبان والأخوان مسوّمين بفتح الواو، وأبو عمرو وابن كثير وعاصم‏:‏ بكسرها‏.‏ وقيل‏:‏ من السومة، وهي العلامة يكون على الشاة وغيرها، يجعل عليها لون يخالف لونها لتعرف‏.‏ وقيل‏:‏ من السوم وهو ترك البهيمة ترعى‏.‏ فعلى الأول روي أن الملائكة كانت بعمائم بيض، إلا جبريل فبعمامة صفراء كالزبير قاله‏:‏ ابن إسحاق، والزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ بعمائم صفر كالزبير قاله‏:‏ عروة وعبد الله ابنا الزبير، وعباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير، والكلبي وزاد‏:‏ مرخاة على أكتافهم‏.‏ قيل‏:‏ وكانوا على خيل بلق، وكانت سيماهم قاله‏:‏ قتادة، والربيع‏.‏ أو خيلهم مجزوزة النواصي والأذناب، معلمتها بالصوف والعهن‏.‏ قاله‏:‏ مجاهد‏.‏ فبفتح الواو ومعلمين، وبكسرها معلمين أنفسهم أو خيلهم‏.‏ ورجح الطبري قراءة الكسر، بأنه عليه الصلاة والسلام قاله يوم بدر‏:‏ «سوّموا فإن الملائكة قد سوّمته» وعلى القول الثاني‏:‏ وهو السوم‏.‏ فمعنى مسوِّمين بكسر الواو‏:‏ وسوّموا خيلهم أي أعطوها من الجري والجولان للقتال، ومنه سائمة الماشية‏.‏ وأما بفتح الواو فيصح فيه هذا المعنى أيضاً، قاله‏:‏ المهدوي وابن فورك‏.‏ أي سوّمهم الله تعالى، بمعنى أنه جعلهم يجولون ويجرون للقتال‏.‏ وقال أبو زيد‏:‏ سوّم الرجل خيله أي أرسلها في الغارة‏.‏ وحكى بعض البصريين‏:‏ سوّم الرجل غلامه أرسله وخلى سبيله‏.‏ ولهذا قال الأخفش‏:‏ معنى مسوّميم مرسلين‏.‏ وفي الآية دليل على جواز اتخاذ العلامة للقبائل والكتائب لتتميز كل قبيلة وكتيبة عند الحرب‏.‏

‏{‏وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به‏}‏ الظاهر أن الهاء في جعله عائدة على المصدر والمفهوم من يمددكم وهو الإمداد‏.‏ وجوّز أن يعود على التسويم، أو على النصر، أو على التنزيل، أو على العدد، أو على الوعد‏.‏ وإلاّ بشرى مستثنى من المفعول له، أي‏:‏ ما جعله الله لشيء إلا بشرى لكم‏.‏ فهو استثناء فرغ له العامل، وبشرى مفعول من أجله‏.‏ وشروط نصبه موجودة وهو‏:‏ أنه مصدر ومتحد الفاعل والزمان‏.‏ ولتطمئن معطوف على موضع بشرى، إذ أصله لبشرى‏.‏ ولما اختلف الفاعل في ولتطمئن، أتى باللام إذ فات شرط اتحاد الفاعل، لأن فاعل بشرى هو الله، وفاعل تطمئن هو قلوبكم‏.‏

وتطمئن منصوب بإضمار أن بعد لام كي، فهو من عطف الإسم على توهم‏.‏ موضع اسم آخر، وجعل على هذا التقدير متعدية إلى واحد‏.‏

وقال الحوفي‏:‏ إلا بشرى في موضع نصب على البدل من الهاء، وهي عائدة على الوعد بالمدد‏.‏ وقيل‏:‏ بشرى مفعول ثان لجعله الله‏.‏ فعلى هذين القولين تتعلق اللام في لتطمئن بمحذوف، إذ ليس قبله عطف يعطف عليها‏.‏ قالوا‏:‏ تقديره ولتطمئن قلوبكم به بشركم‏.‏ وبشرى‏:‏ فعلى مصدر كرجعى، وهو مصدر من بشر الثلاثي المجرد، والهاء في به تعود على ما عادت عليه في جعله على الخلاف المتقدم‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ اللام في ولتطمئن متعلقة تفعل مضمر يدل عليه جعله‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به، وتطمئن به قلوبكم انتهى‏.‏ وكأنه رأى أنه لا يمكن عنده أن يعطف ولتطمئن على بشرى على الموضع، لأن من شرط العطف على الموضع عند أصحابنا أن يكون ثم محزر للموضع، ولا محرز هنا، لأن عامل الجر مفقود‏.‏ ومن لم يشترط المحرز فيجوز ذلك على مذهبه، وإن لا فيكون من باب العطف على التوهم كما ذكرناه أولاً‏.‏

وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي‏:‏ قال بعضهم‏:‏ الواو زائدة في ولتطمئن‏.‏ وقال أيضاً في ذكر الإمداد‏:‏ مطلوبان، أحدهما‏:‏ إدخال السرور في قلوبهم، وهو المراد بقوله‏:‏ ألا بشرى‏.‏ والثاني‏:‏ حصول الطمأنينة بالنصر، فلا تجبنوا، وهذا هو المقصود الأصلي‏.‏ ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين، فعطف الفعل على الإسم‏.‏ ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة أدخل حرف التعليل انتهى‏.‏ وفيه بعض ترتيب وتناقش في قوله‏:‏ فعطف الفعل على الاسم، إذ ليس من عطف الفعل على الاسم‏.‏ وفي قوله‏:‏ أدخل حرف التعليل، وليس ذلك لما ذكر‏.‏

‏{‏وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم‏}‏ حصر كينونة النصر في جهته، لا أنَّ ذلك يكون من تكثير المقاتلة، ولا من إمداد الملائكة‏.‏ وذكر الإمداد بالملائكة تقوية لرجاء النصر لهم، وتثبيتاً لقلوبهم‏.‏ وذكر وصف العزة وهو الوصف الدال على الغلبة، ووصف الحكمة وهو الوصف الدال على وضع الأشياء مواضعها من‏:‏ نصرٍ وخذلان وغير ذلك‏.‏

‏{‏ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين‏}‏ الطرف‏:‏ من قتل ببدر هم سبعون من رؤساء قريش، أو من قتل بأحد وهم إثنان وعشرون رجلاً على الصحيح‏.‏ وقال السدي‏:‏ ثمانية عشر، أو مجموع المقتولين في الوقعتين ثلاثة أقوال‏.‏ وكنى عن الجماعة بقوله‏:‏ طرفاً، لأن من قتله المسلمون في حرب هم طرف من الكفار، إذ هم الذين يلون القاتلين، فهم حاشية منهم‏.‏ فكان جميع الكفار رفقة، وهؤلاء المقتولون طرفاً منها‏.‏ قيل‏:‏ ويحتمل أن يراد بقوله‏:‏ طرفاً دابراً أي آخراً، وهو راجع لمعنى الطرف، لأن آخر الشيء طرف منه ‏{‏أو يكبتهم‏}‏‏:‏ أي ليخزيهم ويغيظهم، فيرجعوا غير ظافرين بشيء مما أملوه‏.‏

ومتى وقع النصر على الكفار، فإما بقتل، وإما بخيبة، وإما بهما‏.‏ وهو كقوله‏:‏ ‏{‏ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً‏}‏ وقرأ الجمهور أو تكبتهم بالتاء‏.‏ وقرأ لاحق بن حميد‏:‏ أو يكبدهم بالدال مكان التاء، والمعنى‏:‏ يصيب الحزن كبدهم‏.‏ وللمفسرين في يكبتهم أقوال‏:‏ يهزمهم قاله‏:‏ ابن عباس والزجاج، أو يخزيهم قاله‏:‏ قتادة ومقاتل، أو يصرعهم قاله‏.‏ أبو عبيدة واليزيدي، أو يهلكهم قاله‏:‏ أبو عبيدة‏.‏ أو يلعنهم قاله‏:‏ السدي‏.‏ أو يظفر عليهم قاله‏:‏ المبرد‏.‏ أو يغيظهم قاله‏:‏ النضر بن شميل، واختاره ابن قتيبة‏.‏ وأما قراءة لاحق فهي من إبدال الدال بالتاء كما قالوا‏.‏ هوت الثوب وهرده إذا حرقه، وسبت رأسه وسبده إذا حلقه، فكذلك كبت العدو وكبده أي أصاب كبده‏.‏

واللام في ليقطع يتعلق قيل‏:‏ بمحذوف تقديره أمدكم أو نصركم‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ يتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏ولقد نصركم الله‏}‏ أي نصركم ليقطع‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن يتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏وما النصر إلا من عند الله‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون متعلقة بيمددكم‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقد يحتمل أن تكون اللام متعلقة بجعله، وقيل‏:‏ هو معطوف على قوله‏.‏ ولتطمئن، وحذف حرف العطف منه، التقدير‏:‏ ‏{‏ولتطمئن قلوبكم به‏}‏ ‏{‏وليقطع‏}‏، وتكون الجملة من قوله‏:‏ وما النصر إلا من عند الله اعتراضية بين المعطوف عليه والمعطوف‏.‏ والذي يظهر أنْ تتعلق بأقرب مذكور وهو‏:‏ العامل من في عند الله وهو خبر المبتدأ‏.‏ كأنّ التقدير‏:‏ وما النصر إلا كائن من عند الله، لا من عند غيره‏.‏ لأحد أمرين‏:‏ إما قطع طرف من الكفار بقتل وأسر، وإما بخزي وانقلاب بخيبة‏.‏ وتكون الألف واللام في النصر ليست للعهد في نصر مخصوص، بل هي للعموم، أي‏:‏ لا يكون نصر أي نصر من الله للمسلمين على الكفار إلا لأحد أمرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 132‏]‏

‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏128‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏129‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏130‏)‏ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏131‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ اختلف في سبب النزول وملخصه‏:‏ أنه لعن ناساً أو شخصاً عين أنه عتبة بن أبي وقاص، أو أشخاصاً دعا عليهم وعينوا‏:‏ أبا سفيان، والحرث بن هشام، وصفوان بن أمية‏.‏ أو قبائل عين منها‏:‏ لحيان، ورعل، وذكوان، وعصية‏.‏ أو هم بسبب الذين انهزموا يوم أحد، أو استأذن ربه أن يدعو‏.‏ ودعا يوم أحد حين شجَّ في وجهه، وكسرت رباعيته، ورمي بالحجارة، حتى صرع لجنبه، فلحقه ناس من فلاحهم، ومال إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم، فنزلت‏.‏ فعلى هذه الأسباب يكون معنى الآية‏:‏ التوقيف على أن جميع الأمور إنما هي لله، فيدخل فيها هداية هؤلاء وإقرارهم على حالة‏.‏ وفي خطابه‏:‏ دليل على صدور أمر منه أو هم به، أو استئذان في الدعاء كما تقدّم ذكره، وأن عواقب الأمور بيد الله‏.‏ قال الكوفيون‏:‏ نسخت هذه الآية القنوت على رعل وذكوان وعصية وغيرهم من المشركين‏.‏ وقال السخاوي‏:‏ ليس هذا شرط الناسخ، لأنه لم ينسخ قرآناً‏.‏

‏{‏أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون‏}‏ قيل‏:‏ هو عطف على ما قبله من الأفعال المنصوبة‏.‏ ويكون قوله‏:‏ ليس لك من الأمر شيء جملة اعتراضية، والمعنى‏:‏ أن الله مالك أمرهم، فإما أنْ يهلكهم، أو يهزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر‏.‏ وقيل‏:‏ أن مضمرة بعد أو، بمعنى‏:‏ إلا أن، وهي التي في قولهم‏:‏ لألزمنك أو تقضيني حقي، والمعنى‏:‏ أنه ليس له من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم بالإسلام فيسر بهداهم، أو يعذبهم بقتل وأسر في الدنيا، أو بنار في الآخرة، فيستشفى بذلك ويستريح‏.‏ وعلى هذا التأويل تكون الجملة المنفية للتأسيس، لا للتأكيد‏.‏ وقيل‏:‏ أو يتوب معطوف على الأمر‏.‏ وقيل‏:‏ على شيء‏.‏ أي‏:‏ ليس لك من الأمر، أو من توبتهم، أو تعذيبهم شيء‏.‏ أو ليس لك من الأمر شيء أو توبتهم‏.‏ والظاهر من هذه التخاريج الأربعة هو الأول‏.‏ وأبعد من ذهب إلى أن قوله‏:‏ ليس لك من الأمر، أي أمر الطائفتين اللتين همتا أن تفشلا‏.‏

وقال ابن بحر‏:‏ من الأمر أي، من هذا النصر، وإنما هو من الله كما قال‏:‏ ‏{‏وما رميت إذ رميت‏}‏ وقيل‏:‏ المراد بالأمر أمر القتال‏.‏ والظاهر الحمل على العموم، والأمور كلها لله تعالى‏.‏

وقرأ أبي‏:‏ أو يتوب عليهم أو يعذبهم برفعهما على معنى‏:‏ أو هو يتوب عليهم، ثم نبه على العلة المقتضية للتعذيب بقوله‏:‏ فإنهم ظالمون، وأتى بأنْ الدالة على التأكيد في نسبة الظلم إليهم‏.‏

‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ لمّا قدم ليس لك من الأمر شيء، بيَّن أن الأمور إنما هي لمن له الملك، والملك فجاء بهذه الجملة مؤكدة للجملة السابقة‏.‏

وتقدم شرح هذه الجملة‏.‏ وما‏:‏ إشارة إلى جملة العالم وما هيأته، فلذلك حسنت ما هنا‏.‏

‏{‏يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء‏}‏ لما تقدّم قوله‏:‏ أو يتوب عليهم أو يعذبهم، أتى بهذه الجملة موضحةً أن تصرفاته تعالى على وفق مشيئته، وناسب البداءة بالغفران، والإرداف بالعذاب ما تقدم من قوله‏:‏ أو يتوب عليهم أو يعذبهم، ولم يشرط في الغفران هنا التوبة‏.‏ إذ يغفر تعالى لمن يشاء من تائب وغير تائب، ما عدا ما استثناه تعالى من الشرك‏.‏ وقال الزمخشري ما نصه عن الحسن رحمه الله‏:‏ يغفر لمن يشاء بالتوبة، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين‏.‏ ويعذب من يشاء، ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب‏.‏ وعن عطاء‏:‏ يغفر لمن يتوب إليه، ويعذب من لقيه ظالماً وأتباعه قوله‏:‏ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون، تفسير بين لمن يشاء، فإنهم المتوب عليهم أو الظالمون‏.‏ ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامون ويتعامون عن آيات الله تعالى، فيخبطون خبط عشواء، ويطيبون أنفسهم بما يفترون‏.‏ عن ابن عباس من قولهم‏:‏ يهب الذنب الكبير لمن يشاء، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير‏.‏ انتهى كلامه‏.‏ وهو مذهب المعتزلة‏.‏ وذلك أن من مات مصراً على كبيرة لا يغفر الله له‏.‏ وما ذكره عن الحسن لا يصح ألبتّة‏.‏ ومذهب أهل السنة؛ أنّ الله تعالى يغفر لمن يشاء وإنْ مات مصرًّا على كبيرة غير تائب منها‏.‏

‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ في هذه الجملة ترجيح لجهة الإحسان والإنعام ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة‏}‏ قال ابن عطية‏:‏ هذا النهي عن أكل الربا اعترض أثناء قصة أحد، ولا أحفظ شيئاً في ذلك مروياً انتهى‏.‏

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ومجيئها بين أثناء القصة‏:‏ أنّه لما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من غيرهم، واستطرد لذكر قصة أحد‏.‏ وكان الكفار أكثر معاملاتهم بالربا مع أمثالهم ومع المؤمنين، وهذه المعاملة مؤدية إلى مخالطة الكفار، نهوا عن هذه المعاملة التي هي الربا قطعاً لمخالطة الكفار ومودّتهم، واتخاذ إخلاء منهم، لا سيما والمؤمنون في أول حال الإسلام ذوو إعسار، والكفار من اليهود وغيرهم ذوو يسار‏.‏ وكان أيضاً أكل الحرام له مدخل عظيم في عدم قبول الأعمال الصالحة والأدعية، كما جاء في الحديث‏:‏ «إن الله تعالى لا يستجيب لمن مطعمه حرام ومشربه حرام إذا دعا» «وأن آكل الحرام يقول إذا حج‏:‏ لبيك وسعديك‏.‏ فيقول الله له‏:‏ لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك» فناسب ذكر هذه الآية هنا‏.‏

وقيل‏:‏ ناسب اعتراض هذه الجملة هنا أنه تعالى وعد المؤمنين بالنصر والإمداد مقروناً بالصبر والتقوى، فبدأ بالأهم منها وهو‏:‏ ما كانوا يتعاطونه من أكل الأموال بالباطل، وأمر بالتقوى، ثم بالطاعة‏.‏ وقيل‏:‏ لما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ وبيّن أنّ ما فيهما من الموجودات ملك له، ولا يجوز أنْ يتصرّف في شيء منها إلا بإذنه على الوجه الذي شرعه‏.‏

وآكلُ الربا متصرّف في ماله بغير الوجه الذي أمر، نبَّه تعالى على ذلك، ونهى عما كانوا في الإسلام مستمرّين عليه من حكم الجاهلية، وقد تقدم الربا في سورة البقرة‏.‏

وانتصب أضعافاً، فانهوا عن الحالة الشنعاء التي يوقعون الربا عليها، كان الطالب يقول‏:‏ أتقضي أم تربي، وربما استغرق بالنزر اليسير مال المدين، لأنه إذا لم يجد وفاء زاد في الدين، وزاد في الأصل‏.‏ وأشار بقوله‏:‏ مضاعفة، إلى أنهم كانوا يكررون التضعيف عاماً بعد عام‏.‏ والربا محرم جميع أنواعه، فهذه الحال لا مفهوم لها، وليست قيداً في النهي، إذ ما لا يقع أضعافاً مضاعفة مساوٍ في التحريم لما كان أضعافاً مضاعفة‏.‏ وقد تقدم الكلام في نسبة الآكل إلى الربا في البقرة‏.‏

وقيل‏:‏ المضاعفة منصرفة إلى الأموال‏.‏ فإن كان الربا في السن يرفعونها ابنة مخاض بابنة لبون، ثم حقة، ثم جذعة، ثم رباع، هكذا إلى فوق‏.‏ وإن كان في النقود فمائة إلى قابل بمائتين، فإن لم يوفهما فأربعمائة‏.‏ والأضعاف‏:‏ جمع ضعف، وهو من جموع القلة‏.‏ فلذلك أردفه بالمضاعفة‏.‏ ‏{‏واتقوا الله لعلكم تفلحون‏}‏ لما نهاهم عن أمر صعب عليهم فراقه وهو الربا، أمر بتقوى الله إذ هي الحاملة على مخالفة ما تعوده المرء مما نهى الشرع عنه‏.‏ ثم ذكر أنّ التقوى سبب لرجاء الفلاح وهو الفوز، وأمر بها مطلقاً لا مقيداً بفعل الربا، لأنه لما نهى عن الربا كان المؤمنون أسرع شيء لطواعية الله تعالى، فلم يأت واتقوا الله في أكل الربا بل أمروا بالتقوى، لا بالنسبة إلى شيء خاص منعوه من جهة الشريعة‏.‏ ‏{‏واتقوا النار التي أعدت للكافرين‏}‏ لما تقدم «واتقوا الله» والذوات لا تتقى، فإنما المتقي محذوف أوضحه في هذه الآية‏.‏ فقال‏:‏ واتقوا النار‏.‏ والألف واللام في النار للجنس، فيجوز أن تكون النار التي وعد بها آكل الربا أخف من نار الكافر، أي أعدّ جنسها للكافرين‏.‏ ويجوز أنّ تكون للعهد، فيكون آكل الربا قد توعد بالنار التي يعذب بها الكافر‏.‏ وقيل‏:‏ توعد أكلة الربا بنارالكفرة، إذ النار سبع طبقات‏:‏ العليا منها وهي جهنم للعصاة، والخمس للكفار، والدرك الأسفل للمنافقين‏.‏ فأكلة الربا يعذبون بنار الكفار، لا بنار العصاة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هذا تهديد للمؤمنين لئلا يستحلوا الربا‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ والمعنى واتقوا أن تحلوا ما حرم الله فتكفروا‏.‏ وقيل‏:‏ اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان وتستوجبون به النار‏.‏ وكان أبو حنيفة يقول‏:‏ هي أخوف آية في القرآن، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه باجتناب محارمه‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وقد أمد ذلك أتبعه من تعليق رجاء المؤمن لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله، ومن تأمل هذه الآيات وأمثالها لم يحدث نفسه بالأطماع الفارغة، والتمني على الله تعالى‏.‏

وفي ذكره تعالى لعل وعسى في نحو هذه المواضع، وإن قال الناس ما قالوا ما لا يخفى على العارف الفطن من دقة مسلك التقوى، وصعوبة إصابة رضا الله عز وجل، وعزّة التوصل إلى رحمته وثوابه انتهى‏.‏ كلامه وهو جار على مذهبه من تقنيط العاصي غير التائب من رحمة ربه، وولوعه بمذهبه يجعله يحمل ألفاظ القرآن ما لا يحتمله، أو ما هو بعيد عنها‏.‏ وتقدم شرح أعدت للكافرين في أوائل البقرة‏.‏

‏{‏وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون‏}‏ قيل‏:‏ أطيعوا الله في الفرائض، والرسول في السنن‏.‏ وقيل‏:‏ في تحريم الربا، والرسول فيما بلغكم من التحريم‏.‏ وقيل‏:‏ وأطيعوا الله والرسول فيما يأمركم به وينهاكم عنه‏.‏ فإن طاعة الرسول طاعة الله قال تعالى‏:‏ ‏{‏من يطع الرسول فقد أطاع الله‏}‏ وقال المهدوي‏:‏ ذكر الرسول زيادة في التبيين والتأكيد والتعريف بأن طاعته طاعة الله‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ هذه الآية هي ابتداء المعاتبة في أمر أحد، وانهزام من فرَّ، وزوال الرماة من مركزهم‏.‏ وقيل‏:‏ صيغتها الأمر ومعناها العتب على المؤمنين فيما جرى منهم من أكل الربا، والمخالفة يوم أحد‏.‏ والرحمة من الله إرادة الخير لعبيده، أو ثوابهم على أعمالهم‏.‏

وقد تضمنت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبديع‏.‏ من ذلك العام المراد به الخاص‏:‏ في من أهلك، قال الجمهور‏:‏ أراد به بيت عائشة‏.‏ فالاختصاص في‏:‏ والله سميع عليم، وفي‏:‏ فليتوكل المؤمنون، وفي‏:‏ ما في السموات وما في الأرض، وفي‏:‏ يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء خص نفسه بذلك كقوله‏:‏ ‏{‏ومن يغفر الذنوب إلا الله‏}‏ ‏{‏نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم‏}‏ وفي ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ لأن العز من ثمرات النصر، والتدبير الحسن من ثمرات الحكمة‏.‏

والتشبيه‏:‏ في ليقطع طرفاً، شبه من قتل منهم وتفرّق بالشيء المقتطع الذي تفرقت أجزاؤه وانخرم نظامه، وفي‏:‏ ولتطمئن قلوبكم شبه زوال الخوف عن القلب وسكونه عن غليانه باطمئنان الرّجل الساكن الحركة‏.‏ وفي‏:‏ فينقلبوا خائبين شبه رجوعهم بلا ظفر ولا غنيمة بمن أمل خيراً من رجل فأمّه، فأخفق أمله وقصده‏.‏ والطباق‏:‏ في نصركم وأنتم أذلة، النصر إعزاز وهو ضد الذل‏.‏ وفي‏:‏ يغفر ويعذب، الغفران ترك المؤاخذة والتعذيب المؤاخذة بالذنب‏.‏ والتجوز بإطلاق التثنية على الجمع في‏:‏ أن يفشلا‏.‏ وبإقامة اللام مقام إلى في‏:‏ ليس لك أي إليك، أو مقام على‏:‏ أي ليس عليك‏.‏ والحذف والاعتراض في مواضع اقتضت ذلك والتجنيس المماثل في‏:‏ أضعافاً مضاعفة‏.‏ وتسمية الشيء بما يؤول إليه في‏:‏ لا تأكلوا سمَّى الأخذ أكلاً، لأنه يؤول إليه‏.‏